جهينة نيوز:
الصفعة القوية التي وجهها الرئيس الإيراني حسن روحاني الى نظيره الأمريكي دونالد ترامب وتمثلت في رفضه تلقى مكالمة هاتفية منه، بترتيب من الرئيس الرئيس الفرنسي، ايمانويل ماكرون، الذي اقام خبراؤه خطا هاتفيا آمنا لهذا الغرض يؤكد ان ايران نجحت في اقامة “شرق أوسط” جديد، ولكن بزعامتها، وليس بزعامة الولايات المتحدة، مثلما خططت الدكتورة كونداليزا رايس، وزيرة الخارجية الامريكية السابقة.
المكالمة الهاتفية كان من المفترض ان تتم على هامش وجود الرئيسين، الإيراني والامريكي، في الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، وبعد تجاوب الإدارة الامريكية مع معظم الشروط الإيرانية، واهمها رفع فوري للعقوبات، لكن جناح الصقور في طهران الذي يتزعمه السيد علي خامنئي، المرشد الأعلى، تعمد منع أي لقاء، او اتصال، بين روحاني وترامب، امعانا في اذلال الأخير واهانته لانسحابه من الاتفاق النووي وفرض العقوبات المشددة على ايران.
***
القيادة الإيرانية تشعر انها في موقف قوي يؤهلها لفرض شروطها وارادتها على الآخرين، وعلى رأسهم الأمريكي و”اتباعه” في المنطقة لعدة أسباب:
الأول: فشل العقوبات الاقتصادية الامريكية في “تركيع” ايران، واستمرار تدفق صادرات النفط الإيرانية الى الصين وتركيا والهند ودول أخرى.
الثاني: باتت القيادة الإيرانية على يقين بأن الولايات المتحدة “اجبن” من ان تشن هجوما عسكريا ضد ايران، سواء للانتقام من اسقاط طائرتها المسيرة، او دفاعا عن حلفائها والسعوديين، منهم خاصة.
الثالث: ان جميع خصومها يواجهون أزمات متفاقمة، فالهزائم تتوالى على السعودية سواء من خلال الهجمات التي استهدفت، وشلت صناعتها النفطية، او الأخرى التي منيت بها على ايدي الجيش اليمني التابع لحركة “انصار الله” الحوثية في محور نجران أخيرا، حيث خسرت آلاف الاسرى ومئات القتلى، والعربات المدرعة الحديثة، والقادم اعظم.
الرابع: الطرف الإسرائيلي الذي كان من ابرز المحرضين لأمريكا على الهجوم على ايران يعيش حالة من الفوضى السياسية حاليا، وبنيامين نتنياهو فشل للمرة الثانية في تشكيل الوزارة، وبدأت اليوم التحقيقات الرسمية من قبل المدعي العام في التهم الموجهة اليه بالفساد، والاختفاء من المشهد السياسي والإقامة في زنزانة لعدة سنوات باتا مؤكدين.
الخامس: الرئيس ترامب نفسه يواجه تحقيقات قد تؤدي الى عزله، وحتى ان لم يكن هذا الاحتمال ممكنا، فان فرصه في الفوز بولاية ثانية تتراجع بسرعة لأسباب عديدة، ابرزها مؤشرات التراجع الاقتصادي، لأنه اساء استخدام سلطته، وحاول اللجوء الى طرق نظرائه العرب “المتخلفة” و”غير الديمقراطية” في تشويه صورة خصومه، انها لعبة الابتزاز النفطي، وكثرة استقبال “الحلفاء” العرب.
السادس: محور المقاومة الذي تقوده ايران حقق إنجازا استراتيجيا على درجة كبيرة من الأهمية بفتح معبر القائم البوكمال على الحدود السورية العراقية قبل يومين، مما يعني ان الذراع الإيراني العسكري والاقتصادي والسياسي سيصل الى شواطئ البحر المتوسط دون أي عقبات، وبما يكسر الحصار المفروض على سورية وانهاء عزلتها، وايصال المزيد من تكنولوجيا الصواريخ والمسيرات المتقدمة الى “حزب الله” والحشد الشعبي في العراق، وسورية ولبنان.
لا نستغرب هذا الانقلاب في المشهد الشرق اوسطي حيث تتقدم فيه ايران، ويتراجع خصومها في المقابل، ويتذلل فيه الرئيس ترامب لها، ويتحمل الاهانات سعيا للحوار معها على امل الخروج من ازماته تطبيقا للمثل الإنجليزي الشهير “ان لم تستطع هزيمتهم انضم اليهم”، حتى انه لم يتورع عن محاولة فرض نفسه على لقاء ثنائي بين ماكرون ومحمد جواد ظريف على هامش قمة الدول السبع الكبرى جنوب فرنسا، ولم يردعه رفض ظريف الذي عاقبه ترامب بفرض عقوبات شخصية عليه، ولكنه لم يتجرأ على منعه من حضور دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومن المؤكد ان هذه التغييرات ستستمر وتتوسع في الأشهر المقبلة.
القيادة السعودية التي هددت بنقل الحرب الى الداخل الإيراني عبر الجماعات المسلحة، وعلى الطريقة الليبية والسورية، وباتت ترسل الوسطاء الذين كلفتهم بنقل رسائل الى طهران طلبا للحوار والتهدئة، وهو انقلاب وتراجع كبيران في مواقفها يمكن فهمها بالنظر الى تطورات الحرب اليمنية الأخيرة.
السيد علي الربيعي، المتحدث باسم الحكومة الإيرانية تعمد رش الملح على جرح الحرج السعودي عندما فاجأنا قبل يومين، بالتأكيد ان الرئيس روحاني تلقى رسالة من الرياض حملها احد الوسطاء (لم يكشف عن اسمه) طلبا للحوار والتهدئة، ومن الغريب ان السيد عادل الجبير، وزير الدولة السعودي للشؤون الخارجية، لم ينف هذ المعلومة، واكتفى بالقول “انها لم تكن دقيقة”، وقال ان دول شقيقه سعت لهذه التهدئة، ولكن تبريراته هذه تتناقض كليا مع تصريح موثق لعمران خان، رئيس الوزراء الباكستاني، اكد فيه ان السعودية هي التي طلبت منه القيام بالوساطة سعيا للتهدئة مع ايران، ومن غير المستبعد انه الشخص المعني بنقل هذه الرسالة.
***
قلناها ونكررها.. العالم لا يحترم الا الطرف القوي الذي يحافظ على كرامة شعبه وعزة بلده، ويرفض الخضوع للابتزاز، ويعتمد على نفسه وقوته الذاتية في الدفاع عن سيادته، والقيادة الإيرانية تتبنى هذه المبادئ والقيم البديهية، المدعومة بخطط البناء والتنمية والتصنيع الحربي، والنفس الطويل، وإقامة دولة المؤسسات والابتعاد عن المزاجية الفردية.
أمريكا خدعت العرب والخليجيين، منهم بالذات، واذلتهم، وابتزتهم، ونهبت أموالهم، وباعتهم أسلحة “خردة” منزوعة القوة والدقة والدسم، وثبت ذلك بوضوح في فشل صواريخ “الباتريوت” والرادارات “الحديثة” التي كلفت عشرات المليارات من الدولارات في رصد، او منع، هجمات حركة “انصار الله” الحوثية وحلفائها، وحماية المنشآت النفطية، والمطارات السعودية، ايران تدعم حلفاءها بالمال والسلاح ولهذا تنتصر ويخسر المعسكر المقابل.
نحن مع الحوار العربي مع ايران والتهدئة معها، لان إدارة ترامب تستجدي ذلك، ولن نفاجأ اذا ما رضخت للشروط الإيرانية كلها، ورفعت العقوبات عنها بالكامل، واعترفت بقيادتها لمنطقة الشرق الأوسط، بما في ذلك تعيين الحكام على الجانب الغربي المقابل من الخليج.
نعم.. عندما تعلن الصين انها قررت استثمار 450 مليار دولار في ايران، وتركيا انها ستستمر في استيراد النفط الإيراني، ولن تعترف بالعقوبات الامريكية، وتنسق روسيا سياساتها في سورية والمنطقة مع طهران، فهذا يعني قيام شرق أوسط جديد لا مكان ولا دور فيه للعرب، وان وجد هذا لمكان وهذا الدور، فانه دور التابع الذليل.. والأيام بيننا.
المصدر رأي اليوم