جهينة نيوز:
مرّ علينا أُناسٌ يُمارسونَ الكذبَ والخداعَ والنفاقَ ويسمّونَهُ مُجاملةً، وسمعنا لسياسيين يُسمّونَ الجمودَ والركودَ والكسادَ في بلادهم استقراراً، وقرأنا لمثقفين يتفاخرونَ بالإباحيةِ والانحلالِ والفجورِ في مجتمعاتهم ويعتبرونها تقدماً، وعشنا أنظمةً حاكمة أطلقت على هزيمةِ وانكسار جيشها انتصاراً، ووصفت خيبة وعجز قادتها إنجازاً، ونعتت إخفاق وفشل مشاريعها نجاحاً، ومضى في تاريخنا دولٌ مارست الغزو والاحتلالَ بعيداً عن أراضيها آلاف الأميال واعتبرته دفاعاً عن النفس.
وها نحن نجد شيئاً قريباً من ذلك في عملية (نبع السلام)، ومن قبلها (غصن الزيتون)، ومن قبلهما (درع الفرات) للجيش التركي (المحمدي) الغازي لشمال سوريا، فنعيش نفس المنطق الأعوج والفلسفة العقيمة، ونشاهد نفس الفيلم النحس والمشهد الهزلي، ونجلس أمام ذات المسلسل النكد والمسرحية المشؤومة، ونقرأ ذات الرواية البائسة والقصة اليائسة. وكان من الأولى تسمية عملية (نبع السلام) نبع الحرب، و (غصن الزيتون) عصن الزقوم، واذا كانت عملية نبع السلام أو الحرب قد حُددت أهدافها بالقضاء على الارهاب الكردي والداعشي لتحقيق السلام والأمن لتركيا وسكان المنطقة، وإنشاء منطقة آمنة شمال سوريا لتوطين اللاجئين السوريين في تركيا، فإن هذا ليس كل شيء فهناك حقائق ينبغي تأكيدها.
غزوة نبع السلام للجيش التركي (المحمدي) والقوات الرديفة غير الشريفة كانت الفصل الأخير لمسلسل طويل ممتد من عمق التاريخ، لم تكن كل فصوله مأـساوية، فقد بدأ منذ خمسة قرون بمعركة مرج دابق عام 1516 التي فتحت الطريق أمام جيش الخلافة العثمانية لدخول بلاد العرب من الشام وحتى حدود مراكش ومن العراق حتى بلاد السودان، ومعركة مرج دابق ومن بعدها الريدانية هي التي مهدّت الطريق ليصبح الوطن العربي كله تقريباً ضمن دولة الخلافة العثمانية بعد هزيمة جيوش المماليك وانهيار دولتهم وباقي الممالك العربية الوارثة لممتلكات الخلافتين العباسية والفاطمية، وهذا حدث في إطار قواعد التدافع الداخلي للأمة الإسلامية، وفي سياق سُنن التغيير التاريخية، وفي انسجام تام مع سُنّة الاستبدال القرآنية بعد أن توّلى العرب عن الأخذ بأسباب النصر والتقدم، فاستبدلهم اللهُ بغيرهم فلم يكونوا أمثالهم.
وبما أن الثابت الوحيد في الحياة هو التغيير، وبعد أن مضت أربعة قرون ثقيلة، ودار الزمن ودورته الطويلة، وطالت بني عثمان سنة الاستبدال وقانون الإحلال، انكمشت دولتهم في حدودها الطبيعية في بلاد الأناضول المعروفة بآسيا الصُغرى المحصورة بين البحرين الأبيض والأسود، وبدّلت جلدها الإسلامي بآخر علماني، واستبدلت علمها العثماني الأخضر بآخر قومي أحمر، وحوّلت حروفها الهجائية من العربية إلى اللاتينية، واستعاضت عن انتمائها للأمة الإسلامية بالانتماء إلى قارة تلفظها وتحالف ينبذها، فلم تخرج من انتمائها السابق، ولم تفلح في الدخول لانتمائها اللاحق، وواصلت محاولاتها للاندماج في هويتها الجديدة من خلال أداء دورها الوظيفي في إطار الحرب الباردة بين القطبين الكبيرين- الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة- فسارعت إلى خدمة مصالح الغرب بقيادة أمريكا ومعها خدمة المشروع الصهيوأمريكي في المنطقة.
واستغلت تركيا الجديدة الحرب العالمية الثانية ورجحان الكفة للحلفاء فغزت لواء الاسكندرونة السوري عام 1938 وضمته إليها عام 1939 بعد أن تنازلت عنه فرنسا دولة الاحتلال في سوريا. واستمر تحرش تركيا بسوريا في إطار دورها الوظيفي بحلف الناتو، ثم في إطار علاقاتها الاستراتيجية مع الكيان الصهيوني، في مختلف المجالات لا سيما العسكرية والاقتصادية، ومع هذا التحالف مع الغرب والتعاون مع الكيان الصهيوني قد تراجع في ظل حكم حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان إلا أنه استمر في العمق والوظيفة لا سيما بعد بدء الأزمة السورية عام 2011، فقد كان لتركيا أردوغان دورٌ مهم ينسجم مع المشروع الصهيوأمريكي الرامي إلى تدمير الدولة السورية، وينسجم مع أهداف عربان الصحراء ووحوش البيداء، وبدون علاقة حقيقية مع حق السوريين في الحرية واختيار حُكامهم.
تدمير الدولة السورية لصالح المشروع الصهيوأمريكي في المنطقة أسفر عن وجود مناطق خارج سيطرة الدولة السورية تقلّصت بعد الهجوم المُضاد للجيش السوري وحلفائه إلى الواقع الحالي الذي تسيطر فيه
( قوات سوريا الديمقراطية) المعروفة اختصاراً (قسد) على ما يقرب من ربع الأرض السورية، وقوات سوريا الديمقراطية عمادها المسلحون الأكراد في وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة، وهي منظمة تكونت عام 2015 بمبادرة وتمويل وتدريب أمريكي لمقاتلة داعش وأخواتها ولإبقاء منطقة شرق الفرات خارج سيطرة الدولة السورية، في إطار مشروع تدمير وتفكيك سوريا كدولة وليس إسقاط النظام فقط، وفي عملية نبع السلام سرعان ما اكتشف الأكراد أن "المتغطي بأمريكا عريان" على حد تعبير الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، وأن بناء تحالفات مع أعداء العرب الأمريكان والاسرائيليين لن تؤدي إلى تحقيق طموحاتهم القومية ولا حقوقهم المدنية، وأن الأصل العودة إلى التصالح والاندماج مع محيطهم العربي والإسلامي لنيل حقوقهم المدنية والقومية في إطار النسيج الوطني والشعبي لدولهم.
صحيح أن المنطقة المستهدفة في عملية (نبع السلام) خارج سيطرة الدولة السورية والجيش السوري، وتحت سيطرة المسلحين الأكراد من الإدارة الذاتية الكردية المدعومة من أمريكا و (إسرائيل)، إلا أنها جزء لا يتجزأ من الأرض السورية، وسكانها جزء لا يتجزأ من الشعب السوري، وأن معظمهم بمختلف مكوناتهم الكردية والعربية وغيرهم ليسوا جزءاً من تحالف (قسد) مع أعداء سوريا، كما أن ما يُسمى بالجيش الوطني السوري المُرافق للجيش التركي، دربهم الجيش التركي وأمدهم بالسلاح، وتدفع الحكومة التركية أجورهم وتصرف لهم وجبات غذائهم، ويقاتلون لتحقيق أهداف ومصالح تركيا، فتقوم بفك رسنهم وقتما تُريد ليفترسوا من تريد من أعداء تركيا سواء المسلحين الأكراد، أو الدواعش وأشباههم، أو الجيش السوري، أو فصائل المعارضة غير الموالية لتركيا، وهذه صفات المرتزقة وقُطاع الطرق وليست صفات الجيوش الوطنية أو المقاتلين الوطنيين.
الخُلاصة أن عملية نبع السلام هي غزو عسكري لأراضي دولة عربية هي سوريا، وأي تسمية أُخرى مُخالفة للحقيقة، فهي ليست فتحاً ولا جهاداً، كما أنها ليست دفاعاً عن النفس، ولا يوجد أي غطاء قانوني لها، فلم تتم بناءً على طلب الحكومة السورية، أو الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ولا أي مبرر قانوني أو أخلاقي أو إنساني... فهي عملية هجوم عسكري منظم لجيش دولة أجنبية لأراضي دولة أخرى دون إرادة حكومتها أو شعبها، والعملية ستجر المزيد من المآسي والحروب على سوريا ولذلك فالتسمية المناسبة لها هي نبع الحرب، والطريق الوحيد للقضاء على الارهاب وتحقيق الأمن لتركيا وسوريا والشعب السوري بمختلف مكوناته العرقية والقومية والدينية والمذهبية هو عودة المنطقة إلى سيادة الدولة السورية وإعطاء الشعب السوري بكافة مكوناته حقوقهم المدنية والسياسية والقومية.
د. وليد القططي – وكالة فلسطين اليوم الاخبارية