جهينة نيوز:
لم يعد بالإمكان التعامل مع إنتشار فيروس كورونا المستجد على أنه أزمة طبية وحسب , بل لا بد من إعتباره جائحة عالمية ، بدأت ملامحها بالبروز كأزمة سياسية وإيديولوجية , دلَّ عليها عمقها وتجذرها وارتباطها بسنوات الإهمال من قبل الحكومات النيوليبرالية التي أنكرت أهمية الصحة العامة والصالح العام , واندفعت وراء تمويل المؤسسات التي تضاعف هيمنتها وقوتها العسكرية بما يعزز نفوذها داخل وخارج حدودها , بحثا ً عن الإستئثار بالسلطة وبثروات الدول والشعوب , على حساب القيم الإنسانية والأخلاقية والحرية والديمقراطية والتعليم وحماية بيئة الأرض - البيت الكبير للبشر- , عبر مشاهد أليمة لا يمكن فصلها عن العنصرية والتعصب والقومية المتطرفة الممزوجة بالأنانية , وسط غياب شبه تام للتعاون والتعاضد وتشارك المسؤولية , لإنقاذ البشر على مساحة الأرض.
لقد بدا مشهد تسييس الأزمة وتبادل التهم وتحديد المسؤول عن ظهور وإنتاج وإنتشار الفيروس أمرا ً قاسيا َ في وقتٍ يحتاج فيه البشر إلى علاج وحماية ورعاية , لكنه سلط الضوء على الذهنية النابعة من إيدولوجية الأنظمة الكبرى المتحكمة والمؤثرة بالقرار في النظام العالمي بشكل مباشر أم غير مباشر... فلطالما تبنت النيوليبرالية مبدأ القيادة عبر المسؤولية الفردية ، وأنتجت قادة ورؤساء تبنوا سياسات من يختبؤون وراء الستار , وبرحيلهم تتغير السياسات وقد تنقلب رأسا ً على عقب , حتى بما يتعلق بمعالجة المشاكل أو الصعوبات الإجتماعية , في محاولة لإحتواء الرأي العام , عبر خصخصة مشاكله الإجتماعية على غرار خصخصة واحتكار الخدمات والأسواق ومنابع إدرار الثروات ، على قاعدة اغسل يديك لإحتواء الوباء ولا تتدخل في صناعة الأدوية واللقاح وأجهزة التنفس , يبدو أنهم يرون في الديمقراطية والتشاركية والتعاون والتضامن خطرا ً يهدد السوق وأرصدتهم المصرفية.
من الواضح إن تركيز النيوليبراليين على "القيم" التجارية وإيديولوجيتها الخبيثة وأنانيتها , قد ضاعف عدد المتضررين وعبث بأمنهم وحياتهم ومصيرهم , ووضعهم وسط دائرة الفوضى والحرب على البشر, والسعى للقضاء على العقد الإجتماعي الذي صاغته الطبيعة البشرية عبر القرون , وإدراجه رقما ً في لغة الأرباح والخصخصة والتبادل التجاري .
لن تتوقف الأزمة الحالية بمجرد حصرها بتقصير أو إهمال واستهتار الرأسمالية النيوليبرالية , التي تقف وراء النقص العالمي الحالي في المستشفيات ، والمستلزمات الطبية ، والأسرّة ، بل أصبحت العلاقات الاجتماعية والإنسانية برمتها خاضعة للإستغلال المالي , وبالدعوة إلى التباعد الإجتماعي كوسيلة طبية لإبطاء انتشار الفيروس ، وربما لتعزيز أشكال التعامل مع الموت وطقوسه وتقاليده.
يبدو أن الأزمة الطبية تتجه لتتحول إلى أزمة سياسية طويلة الأمد , قد تدفع - في زمن الكورونا أو بعده – الأدوات النيوليبرالية إلى مهاجمة الإقتصاد والسلطات الحكومية , وقد تتجه بلا أخلاق ومسؤولية نحو محاسبة سياسية من أجل إعادة تشغيل الإقتصاد وتتحول إلى اّلة حربٍ جديدة , تملك من الوحشية ما يستطيع تحويلها سياساتها إلى شكل من أشكال الفاشية ، الأمر الذي سيمنحها الفرصة لإضافة ملامح لا أخلاقية جديدة.
إن إنكار واستهار وإضاعة ترامب أكثر من ستة أسابيع للبدء بالتحرك لمواجهة الكورونا , بدا كمن يحاول القول أن "العلاج أسوأ من المرض" , ولا يبدو مقتنعا ً بالتباعد والعزل الإجتماعي على أنه أهم أداة لإحتواء ومحاصرة الفيروس , ويصب إهتمامه على إعادة فتح الأسواق أكثر من إهتمامه وقلقه من إزدياد عدد الإصابات والوفيات , بما يعكس قلقه على إعادة انتخابه , ومن خلال أبشع صور الإنتهازية السياسية ، ودوافعها من أجل تحقيق الأرباح واحتضان العقيدة النيوليبرالية القاسية التي يمثلها , ويحافظ على طريقة التعامل مع الجائحة على أنها معركة حزبية داخلية , ودولية خارجية من خلال إصراره على سياسات الحصار الإقتصادي الأحادي الذي تفرضه بلاده على عدد من الدول , على الرغم من تحذيرات خبراء الصحة والإقتصاديين من تحول أزمة الكورونا إلى كارثة وخطر عالمي , بما يكشف المزيد من وحشية النهج الذي يمثله.
من الواضح أن سياسته المتهورة التي لم تبال بحياة من يموتون , ولاتبرر إستهتاره وكذبه وجهله سوى ما يؤكد ميوله لتحويل السياسات العليا إلى شكل من أشكال القسوة والوحشية , والتي تجلت في احتجاز الشحنات الطبية لغير دول , وبدفع أثمانٍ مضاعفة للظفر بها , وبتجاهل نداءات حكام بعض الولايات الأمريكية للحصول على الإمدادات الطبية مع اشتداد حاجتهم إليها.
لا يبدو ترامب وإدارته , وحدهم من يرقصون على أنغام سياسةٍ تحتفل بالموت , على أمل تحريك الإقتصاد وإنعاشه , فهناك جوقة كبيرة من مؤيديه في العديد من الدول الأوروبية , ومن المسؤولين عن الخلل في أنظمة الرعاية والتأمين الصحي , وفي نقص الخدمات الطبية والمعدات والأجهزة .
لقد كشفت أزمة الكورونا أن "الوباء" الحقيقي يكمن في الطبيعة المتوحشة للنيوليبرالية , التي هيمنت على الإقتصاد العالمي لعقود ، والتي تضع العالم في مواجهة مباشرة مع غير أوبئة , كالحروب النووية , والحروب التجارية , وحروب النفوذ والسيطرة على منابع الطاقات , وحروب التدمير البيئي , وحروب القضاء القيم الإنسانية والحضارية ... لفرض ثقافة متوحشة تبيح وتبرر الإستيلاء على الشحنات والقوافل الطبية , الأمر الذي يرفع منسوب الأنانية والتمسك بقوارب النجاة ، ويضع قادة كافة دول العالم في قلب الأزمة وأمام مسؤولياتهم وشعوبهم , ويدفعنا للسؤال , هل ستندلع حربا ًما تحت عنوان "أنا أحمي شعبي"؟.
يبدو أن فيروس الكورونا قد فرض نفسه لاعبا ً أساسيا ً في خارطة الصراعات السياسية , وأنه اّن الأوان للإعتراف بأن الرأسمالية والديمقراطية مساران مختلفان ، فمظاهر "الصحة" في النظام الرأسمالي يقابلها تاّكل لديمقراطيتها المزعومة , وتبقى لحظة إلتقائهما بمثابة إطلاق صافرة الخطر الذي ينتظر الشعوب على المدى المنظور والمتوسط والبعيد .
المهندس : ميشيل كلاغاص