جهينة نيوز:
اكثر ما يستفزنا، ويثير سخريتنا، هذه الأيام، احاديث المتحدثين العسكريين الإسرائيليين عن “محتويات” بنك أهدافهم في قطاع غزة، واستهدافها بقصف صاروخي من قبل الطائرات المغيرة وتدميرها، لنكتشف خلال الأيام الأربعة الماضية من الحرب انها كانت عبارة عن ابراج سكنية او مدارس، وملاجئ للعجزة، أي اهداف مدنية في معظمها.
قطاع غزة ليس الإمبراطورية الروسية التي تمتد من اقصى شرق آسيا الى اقصى غرب أوروبا، ولا هو قارة الصين، او بضخامة فرنسا، قطاع غزة شريط لا تزيد مساحته عن 150 ميلا مربعا، واكثر مناطق العالم ازدحاما بالسكان، ولكنه يحتضن مقاومة شريفة، بجاهزية عالية، وحاضنة شعبية صلبة موحدة، وقيادة تملك منسوبا عاليا من الكرامة وعزة النفس والايمان بالنصر، والعبرة ليست في الحجم او العدد.
ما كشفته الأيام الأربعة الأولى من هذه الحرب ان الإسرائيليين هم المطاردون والمحاصرون أيضا، واحد الأدلة الأبرز اغلاق مطار اللد الذي لم يعد آمنا وفي مرمى صواريخ المقاومة، ومن المفارقة ان هروبهم وطائراتهم المدنية الى مطار “رامون” البديل في النقب اعطى نتائج عكسية بعد وصول صاروخ القسام من طراز “عياش 250” اليه واغلاقه بعد بضعة ساعات، لتصبح الدولة العبرية “العظيمة” معزولة عن العالم بأسره، نتيجة فشل استخباراتي فاضح ومجلجل لكل أجهزتها الأمنية، ومراكز ابحاثها العسكرية، فإسرائيل التي تباها بعظمتها نتنياهو ليست قوية، وانما خصومها هم الضعفاء، نقولها وفي الحلق علقم.
***
أكاذيب دولة الاحتلال وقيادتها هذه الأيام كثيرة وتتناسل، في اطار خطة محكمة للتضليل وخداع الرأي العام الاسرائيلي ورفع معنوياته المنهارة، لكن هناك كذبتين لا يمكن تجاهلهما وتفنيدهما بالتالي:
الكذبة الأولى: حشد مئات الدبابات والعربات المدرعة على حدود قطاع غزة الشرقية، تلويحا وتهديدا بالاجتياح البري، وهم يعلمون جيدا ان هذا الاجتياح لو تم، سيكون اكبر هدية لرجال المقاومة ومليوني فلسطيني محاصرين مجوّعين ويحلمون بالشهادة، فهناك اكثر من 250 الف بندقية ومدفع رشاش في ايدي مواطني غزة، ولعل ارييل شارون اكبر ذات متضخمة متغطرسة في تاريخ القيادات العسكرية الإسرائيلية الذي هرب من القطاع ومعه سبعة آلاف مستوطن، ولم ينظر خلفه من الرعب بعد ان فشل في البقاء من تأثير العمليات الفدائية، وبأس رجال المقاومة، وهو الدرس الذي يحفظه جميع الإسرائيليين عن ظهر قلب.
الكذبة الثانية: ورد اليوم على لسان الجنرال ايلي كوهين وزير الاستخبارات الإسرائيلي، وملخصها ان حكومته رفضت جميع مبادرات وقف اطلاق النار التي جاءت بطلب من “حماس”، فالمعلومات المتوفرة لدينا، ووصلتنا من فم الأسد تؤكد ان نتنياهو اتصل بالقاهرة والدوحة طالبا الوساطة، ومستجديا اتفاقا سريعا لوقف اطلاق النار، وكان رد السيد إسماعيل هنية (حماس) وزياد النخالة (الجهاد) الرفض الفوري، وإبلاغ الوسطاء الاستعداد لمواصلة القتال لمئة او مئتي يوم دون توقف، وان ما جرى استخدامه من أسلحة وصواريخ اقل من عُشر ترسانة فصائل المقاومة، وانهم لا يثقون مطلقا بنتنياهو وأصدقائه العرب، وضماناتهم، وليسوا مستعدين ان يلدغوا من الحجر نفسه مرة أخرى.
صاروخ “عياش 250” الذي اخترق القبب الحديدية ووصل الى مطار “رامون” في النقب جنوب فلسطين، وبالقرب من غلاف مفاعل ديمونا، كان له وقع الصاعقة على القيادتين العسكرية والسياسية الإسرائيلية، لانهما اعتقدا ان مثل هذا الصاروخ الباليستي الدقيق لا يمكن ان يكون في حوزة “كتائب القسام”، ولا نستبعد ان هناك مفاجآت اخرى من الوزن الثقيل جدا ستكشف عنها في الأيام المقبلة.
نتنياهو ورهطه يبذل جهودا غير مسبوقة لوقف اطلاق النار، ليس بسبب مفاجآت صواريخ المقاومة المزلزلة والصادمة، وانما ايضا لان الجبهة الداخلية الاسرائيلية تشهد حربا أهلية نتيجة انتفاضة أهلنا في يافا وحيفا، وام الفحم، والناصرة، واللد والرملة وعكا وطبريا وبئر السبع، ونزولهم الى الشوارع والميادين تضامنا مع المرابطين في القدس المحتلة، والشيخ جراح، وفصائل المقاومة في قطاع غزة، فهذه الانتفاضة تعني بداية الانهيار “للحلم الصهيوني”.
الانحياز الأكبر الذي حققته انتفاضة الأقصى، والتضامن الصاروخي معها، ليس تدمير اسطورة القبب الحديدية، وتفجير الداخل الاسرائيلي فقط، وانما فرض وقائع جديدة على الأرض ستحدد الأسس الجديدة للمنطقة الشرق أوسطية وخرائطها العسكرية والسياسية الجديدة نوجزها في النقاط التالية:
أولا: فرض فصائل المقاومة في قطاع غزة نظرية جديدة تقول انه ليس المهم امتلاك الصواريخ الدقيقة وبأعداد كبيرة، وانما امتلاك الإرادة والشجاعة على اطلاقها وضرب العمق والبنى التحتية للعدو، وعدم اطلاق التهديدات الا بعد توفر القدرة والعزيمة لتنفيذها.
ثانيا: تزايد احتمالات وفرص الرد المباشر والقوي من قبل ايران وسورية وفصائل الحشد الشعبي في العراق (هذه القاعدة لا تنطبق على انصار الله في اليمن) على أي عدوان إسرائيلي، مثل اغتيال العلماء والهجوم على مفاعل نطنز الإيراني، وقصف قواعد إيرانية وسورية في سورية.
ثالثا: سقوط هيبة اسرائيل العسكرية والاستخبارية سقوطا مريعا، وعودة المقاومة الفلسطينية الى المواجهة مجددا، وخروج السلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس من المعادلة السياسية في المنطقة.
رابعا: ضرب خط انابيب الغاز والنفط الاسرائيلي الذي يمتد من ميناء ايلات في فم خليج العقبة الشمالي الى عسقلان على البحر المتوسط، وكان احد ابرز مشاريع التطبيع الإسرائيلي الخليجي في اطار اتفاقات “سلام ابراهام”، بصاروخ قسامي، يعني انهيار جميع هذه المشاريع التي تريد تصدير النفط والغاز حول هذا الخط، تجنبا لمضيقي هرمز وباب المندب، وإيجاد البديل لقناة السويس.
***
صواريخ المقاومة المباركة التي انطلقت من قطاع غزة، وأكدت عروبة بيت المقدس، واكناف بيت المقدس، وحمت المسجد الأقصى، وكنائس الاشقاء المسيحيين من مؤامرة التهويد، واسقطت صفقة القرن وسلام ابراهام “المسموم”، واسست وتؤسس لشرق أوسط جديد، ومختلف، ستتبلور ملامحه في الأشهر والسنوات المقبلة.
المشروع الصهيوني بدأ يلفظ أنفاسه الأخيرة، ولم يعد امام المخدوعين فيه غير خيار واحد، وهو حزم الحقائب والرحيل طلبا للنجاة والسلامة.. والايام بيننا.
المصدر رأي اليوم