جهينة نيوز:
ثيابهُ رَثة لدرجةٍ تَخطفُ
عَينُ الناظرِ وَقَلبهِ ، أمَّا الحذاءُ فَيبدو عليهِ بلاءُ دهرهِ.
وأكثرُ مَا يُلفتُ النظرَ لهُ ، ذاكَ الشَعرُ الشديدُ البياض ِ ويبدو أنهُ الشيء الوحيد الأبيضَ الذي بقيَ لهُ مِنَ الحَياةِ.
إنهُ كَامل .. الإنسانُ الغريبُ الأطوارِ الناقصُ العقلِ بالنسبةِ لأهلِ قَريتهِ .
وبِحكمِ جَولاتِ عَملي التابع للإنشاءاتِ الهندسية و متابعةِ مشروعِ بناء في تلكَ القريةِ ، فقد كنتُ أصدفهُ مراتٍ عَديدة في الطرقاتِ ، يَتَجول شَارداً مُشتتاً لا يهتدي لدربٍ مُعيّن .
بالأمسِ لَفتَ نظري كيفَ كانَ يملأُ الماءَ ببعضِ الأَوَاني القَديمةِ التي جَمعَها مِنْ مُخلفاتِ أهلِ القريةِ وَيضعَها في ظلِ الأشجارِ للطيور العَطشى كي تشربَ منها في هذا الجوِّ الشديد الحرِّ ، فَتساءلتُ بين نفسي هَل حقاً مَنْ يَمتلك هَذهِ الإنسانيةِ نَاقصُ عقلٍ وَمَجنون !
اليومُ وصلتُ إلى دوامي متأخرة بسببِ إزدحامِ السّير ويَبدو أيضاً أن سيارتي تُعاني من عطلٍ ما..
مَا كُدتُ أدخلُ المكتب وكانَ زملاء العمل يَنتظروني للخرُوجِ بِمهمةِ عملٍ للمشروعِ ذاتهِ في تلكَ القريةِ .
نظرتْ لي ريما وقالتْ :
- كُنا بانتظارك ، هيا السّائقُ يَنتظرنا الآن .
- سأذهب بسّيارتي ، فلا تنتظروني
- حسناً نلتقي في القرية إذاً .
وانطلقنا في ذاتِ الوقتِ ،
وكَالعادةِ لا غِنَى لي عَنْ سماع تَراتيلِ السيدة فيروز تُباركُ صَباحي وأُبعِدُ بخيالي لعالمٍ جميلٍ وأنا أُدَنْدِنُ مَعَها وأسافرُ لعالمٍ مِنَ السحرِ وَالجَمالِ .
وَ بعدَ مَسافةٍ لا بَأسَ بِها بَدأَ نَفسُ السَّيارة يَتعب ويزداد ثقلهُ أكثر فأكثر حتى أمستْ كعجوزٌ صدرهُ مُتعب يَسعلُ بِشدةٍ وهو يُدخنُ تبغاً ثقيلاً وَيَمشي مُجَبراً .
وَبَدأ أملي يَخيبُ بأن أُكمل طريقي بها وسَاءَ الحالُ حتى رَكنتها يمينَ الطريقِ وَجَلستُ أفكرُ بِحلٍ لألحقَ بفريقِ العملِ .
فجأة قطعَ حبل أفكاري صوتُ ضجيجٍ وقَرقَعةٍ قادمٌ نَحوي .
وإِذْ بهِ يُطلُ ذاكَ الأَبْله كَامل يُمسكُ بِحبلٍ طَويلٍ يَربِطُ بنهايتهِ عُلباً كَثيرة مِنَ التنكِ الفارغِ وَيسيرُ بِخطواتٍ ثَقيلةٍ إلى أَنْ وَصَلَ أمَامي
- مَرحَباً يا جَميلة
- أهلاً ياكامل كيفَ الحال ؟
- ههههه أفضلُ مِنْ حَالكِ
- أتمنى ذَلكَ
- مَا بكِ تقفين في الطريقِ هكذا هل ضعتِ ؟
- لا سيارتي تَعَطلتْ
- حقاً ما بها !
- لا أعلم ، لكن أخبرتُ صديقتي وَأنتظرُ قدوم أحدهمْ لِمُساعَدَتي.
صَفنَ كامل قليلاً وقال :
- أليسَ مَعَكِ عِدّةُ تَصليحٍ في السّيارةِ ؟
- بَلى مَعي
- هَاتيها
- لمَاذا ؟ وَمَا خَصَكَ أنتَ بالعدة ؟
- هَيا .. لا تُضيّعي الوَقت اعْطِني عِدّةُ التَصليح
دُهشتُ كثيراً وأعطيتهُ صندوق العدةِ وأنا في حيرةٍ من أَمري بِكلِ ما أرى مِنهُ وَأسمع من حَديثهِ ، وَجالَ في خاطري ذَاكَ المثلُ القائل مجنون يحكي وعاقل يسمع!
وَبَدأَ العمل ، يَفكُ ويُركبُ بطريقةٍ مُدهشةٍ تدلُ على ذكاءٍ وَخبرةٍ ، فَقلتُ لَهُ:
- مَنْ أنتَ وَلِمَاذا تدّعي الجُنون ؟
بالله عليكَ مَا قِصَتُكَ .
نظرَ ليَّ نَظرةٍ فيها مِنَ البُؤسِ حَجمُ سحابةٍ سَوداء تُغَطي سماء وطن ، وأكملَ قَائلاً :
- أنا كامل مَهندسُ ميكانيكٍ بائسٍ فَقَدَ كل عَائلتهِ مِنْذُ خَمس سنين في يومٍ مشؤوم أسود ، كنتُ في عملي حينَ هَجمَ مَجموعة إرهَابية مُتَوحشة على مساكنِ الحيِّ فَقتَلوا وَاغتَصَبوا وحَرَقوا وخَطَفوا ، أعداءُ اللّه لَمْ يَتركوا شيئاً في الحيِّ على حَالهِ.
كُنتُ جَبَلاً مِنَ العَزمِ تَصدَعَ وانهارَ حينَ تلقيتُ الخبر ، بَحثتُ عنهم كَثيراً ، دونَ جدوى كأنَ الأرضَ انشقتْ وابتلعتهم ، جَمعتُ كل مَابقيَ مِنْ قواي وَ بَحثتُ بينَ الجثثِ وفي التوابيتِ التي جَهزوها للدفنِ ، ألقيتُ نظرةً على مُحتواها لَمْ أَجدْ لَهم أثر ، وبَعضُ التوابيتِ فَارغٌ كتلك العُلب الفارغةِ التي تَرَينَها مَعي ..
لم أترك طريقة للتقصي عنهم ليسَ لَهُم أثر، زوجتي وأولادي الثَلاثة وأُختي التي كَانتْ تَبقى عندنا مِنْذُ فَترةٍ للدراسةِ في الجامعة .
خمس سنين على ذاتِ الحال لا أثرَ لهم ابداً، لَيتَهم أخبَروني أنَهم ماتوا كُنتُ سَلمتُ أمري بقضاءِ اللّه ، لكنَ النَار تَحرقُ قلبي وتأكلهُ كل لحظةٍ ألفَ مرةٍ بلا رَحمَةٍ .
- كانَ يحكي ودموعه تنهمرُ بسخاءٍ وتغسلُ غُبارَ وجههِ الذي أذبلهُ القهر حتى بدا كعجوز عمرهُ ألف عامٍ من الحزن .
- وتابعَ قائلاً :
- يا اختي ، أهلُ القريةِ كَانوا بعددِ السّاعَاتِ وَالدقائقِ يَسّألوني عَنهم وأنا لاحولَ لي ولاقوة إلا بالله ، وَقفتُ عَاجزاً ضَائِعاً أمام تكرارِ ذات الجوَاب .. لا أثرَ لهم حتى الآن .
ضَاعَ حُلمي وأمَلي وعمري سَافرَ وراء ضَبابٍ مِنَ المجهولِ ، وأمسى رأسي كَتلكَ العُلب الفَارغة يَخلو مِن كل شيءٍ إلاَّ مِنْ ضَجيجِ ذكرياتٍ تُميتُني كلَ يومٍ ألفَ مَرة ..
إلى أَنْ صَنعتُ لنفسي مَنْفَذاً بهذهِ الهَيئةِ لأَهرب مِنْ عجزي .
فَما رَحَمتني الدُّنيا ولاَ الناسّ وَلَمْ يَعد لي قِدرة على مُتَابعةِ الحياةِ فَكنتُ أنا ذَا المجنُون كامل ..
- كامل هل أنتَ حقاً مُرتاح بهذهِ الهَيئة التي هَربتَ لها ؟
قاطعني مُتهرباً مِنْ الإجَابةِ قَائلاً :
- سّيارتك جَاهزة جَرّبيها ، لَكنْ عِديني ألا تُخبري أَحَداً بِأني أصلحتُها .
- حسناً أعِدكَ لاتقلق بهذا الشأن وشكراً لِمُساعدتكَ وكمْ أتمتى لكَ أنْ تسّمعَ خَبراً يُثلجُ قلبكَ عَنْ عائلتكَ .
لكنْ أريدُ أَنْ أسألكَ سؤال قبل أن تذهب
- هل حاولتَ الوصول لأَحَد المسؤلين في البلد ؟
عَلَّهُ يُفيدكَ بِشأنِ اختفاءِ عَائلتك إن كانوا مع المخطوفين .
- بلى حَاولتُ وَكَثيراً وَلمْ أجد منهم سوى حَال تلكَ العُلب الفَارغة ، قَرقعة وَضَجيج دونَ فائدةٍ بشيءٍ يُذكَر .
- هيّا يَا صَبيّة أكمِلي طَريقك بسلامٍ ، وَدعيني أُكملُ طَريقي .
فَمسكَ حَبلهُ كأبلهٍ ، وانتعلَ طريقه بخطواتهِ الثقيلة وقد جمعَ كل خَيباتِ وطنه لِيَجرّها خَلفهُ بتلك العُلبُ الفَارغة وصوتُ قَرقعتِها وضَجيجها يَكادُ يَصلُ السّماء.