جهينة نيوز-د.إبراهيم خلايلي
لاحظنا في الحلقة الثالثة التي حملت عنوان (الجبهة السورية اللبنانية وسقوط "الاستراتيجية الصهيونية في الثمانينات")، الارتباط الكبير لمعطيات هذه الحلقة مع ما ورد في الحلقتين الأولى (عقيدة التقسيم التوراتية الصهيونية) والثانية (خطة التقسيم الصهيونية، من مكونات إلى قوميات ومن دول إلى دويلات)...فمشروع ما سُمي بـ"إسرائيل الكبرى" –المذكور في وثيقة "كيڤـونيم" والمستند إلى خرافة "الوعد الإلهي" الواردة في كتاب التوراة- إنما بدأ بخطوات تنفيذية على الأرض اللبنانية في مطلع صيف عام 1982، وذلك من خلال الغزو الثاني للبنان...على أن الغزو الأول عام 1978، لم يختلف بأهدافه عن أهداف الغزو الثاني، الذي كان أوسع، نظراً للأخطار التي أحدقت بكيان الاحتلال بسبب وجود قوى عسكرية فاعلة على الأرض، في مختلف أنحاء لبنان، من جيش سوري وفصائل مقاومة فلسطينية ووطنية لبنانية، كان تحالفها سدّاً منيعاً في وجه مشاريع الكيان الصهيوني انطلاقاً من لبنان، والمتلخصة في محاولة السيطرة الاسرائيلية عليه والتأسيس لأكبر فتنة طائفية فيه، من شأنها تمكين الصهاينة من تفتيته إلى كيانات، عبر اختطاف طائفة فيه لعقد اتفاقية سلام معهم، تكون بمثابة الخطوة الأولى لتحويله إلى دويلات، على أن يعمم الصهاينة نموذج تلك الدويلات فيما بعد على دول المنطقة، وفي مقدمتها سوريا التي أحبطت –بادئ ذي بدء- ما حيك لها داخلياً في أواسط سبعينات القرن الماضي ومطلع الثمانينات فيه، من خطة أميركية صهيونية باستخدام جماعة الأخوان المسلمين لضرب مقدرات الدولة السورية ومؤسساتها ووحدة شعبها ومكوناتها...وبعد ذلك كان التصدي للغزو الاسرائيلي الثاني للبنان عام 1982، الذي انتهى –عملياً- عام 2000 بخروج آخر جندي صهيوني محتل من جنوب لبنان...وقبل هذا الاندحار، كانت طوائف الشعب اللبناني قد استعادت وفاقها عام 1989 وجددته بمجهود سوري، عسكريٍّ خلال حصار بيروت من قبل جيش الاحتلال في صيف عام 1982، وعسكري-سياسي ما بعد فك الحصار، تمثل في دعم المقاومة الوطنية اللبنانية وتطوير قدراتها، وإعادة تشكيل ما بقي من فصائل المقاومة الفلسطينية، ثم تحقيق حالة السلم الأهلي اللبناني ورعايتها...وكل ذلك أثبت فشل خطة الغزو الصهيوني، التي انتهت بما لم يُحسب لها من نتائج، جعلت من خطة "عوديد ينون" في الثمانينات مجرّد ورقة إعلامية لتداول الصحافيين والمعلقين والمحللين السياسيين، ووثيقة تحمل بنود الاستراتيجية الدائمة للصهاينة ضد دول المشرق العربي...
المشرق العربي بعد سقوط الاستراتيجية الصهيونية في الثمانينات
بالرغم من فشل خطة "عوديد ينون" في لبنان، وانطلاقاً من لبنان، إلا أن ثمناً باهظاً قد دفعته المنطقة من خلال المزيد من الخلافات العربية والدخول في متاهات وأوهام "العملية السلمية"، مع خسارة لبنان كجبهة عسكرية وسياسية متقدمة لمنظمة التحرير الفلسطينية ضد كيان الاحتلال، فبتاريخ 2-9-1982 أعلن الرئيس الأميركي "رونالد ريغان" مبادرته حول قضية "الشرق الأوسط" قائلاً: "...وهذا اليوم يدعونا جميعاً إلى الفخر لأنه سجّل نهاية جلاء منظمة التحرير الفلسطينية عن بيروت بنجاح..."(1).
وكان خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت قد أبعد قيادتها عن أهم كوادرها وعن القاعدة الشعبية العريضة لها في أهم دول اللجوء، وأدخلها في دوّامة بعيدة عن الصراع الحقيقي مع الكيان الصهيوني، ألا وهي دوّامة "السلام" معه...
سلام بشروط أميركية إسرائيلية، أو غزو عسكري
من المعروف أن خطة غزو لبنان عام 1982، قد تمّت بالتنسيق الإسرائيلي مع الولايات المتحدة الأميركية، وذلك في إطار مشروع الولايات المتحدة القديم الجديد، وهو قيام "شرق أوسط جديد"، فهذا الشرق الأوسط الجديد -المقسّم والمفتّت والمتضمن أولاً لتصفية القضية الفلسطينية- لا يتحقق حسب الأحداث المسجلة إلا بطريقتين اثنتين، هما التسوية السلمية بشروط أميركية إسرائيلية أو الغزو العسكري، والدليل على ذلك -في مطلع ثمانينات القرن الماضي- أن الولايات المتحدة قد أطلقت وزير خارجيتها "ألكسندر هيغ" في نيسان من عام 1981 –أي قبل سنة تقريباً من غزو لبنان- في زيارة إلى عدة دول في "الشرق الأوسط"، فدعا في زيارته تلك إلى "قيام شرق أوسط جديد"، قائلاً: "إن النزاع العربي الإسرائيلي يجعل بعضاً من أوثق أصدقائنا منقسمين على أنفسهم، والمصالح الأميركية في الشرق الأوسط لا يمكن حمايتها إلا باستراتيجية لا تغفل تعقيدات المنطقة ولا التهديد بحدوث تدخل خارجي، والولايات المتحدة تعتبر عملية السلام، والجهود المبذولة لمواجهة التهديدات السوفييتية والإقليمية، تعزّز بعضها بصورة متبادلة، فإذا كان أصدقاؤنا العرب على استعداد أكبر لركوب المخاطر من أجل السلام مع الإسرائيليين فإن التعاون في مجال الأمن سيكون سهلاً، باعتباره تعاوناً ضرورياً لردع أي تدخل سوفييتي ولردع الدول العاملة لحسابه"(2)...
الدور العربي
كانت المملكة العربية السعودية أول المتجاوبين مع مبادرة "هيغ"، ففي السابع من آب عام 1981، أطلق وليّ عهدها –آنذاك فهد بن عبد العزيز– مبادرة سلام جاء في أهم بنودها انسحاب الكيان الاسرائيلي من جميع الأراضي العربية التي احتلها عام 1967، وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، وتأكيد حق الفلسطينيين في العودة أو التعويض، مع تأكيد حق دول المنطقة في "العيش بسلام"...وقد طُرحت المبادرة السعودية في القمتين العربيتين المنعقدتين في مدينة فاس المغربية، الأولى في شهر تشرين الثاني عام 1981، والثانية في شهر أيلول من عام 1982، إلا أن المبادرة ووجهت برفض شديد –وخاصةً في قمة1981- من قبل أهم الدول العربية، وعلى رأسها سوريا والعراق والجزائر وليبيا ومنظمة التحرير الفلسطينية، وكان جوهر الرفض متمثلاً في عدم قبول الاعتراف بالكيان الاسرائيلي والتعايش معه –أي التطبيع-(3)...
ويذكر الأمين العام المساعد للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة، د. طلال ناجي، أن الرئيس الراحل ياسر عرفات هو من طلب من الأمير فهد إطلاق مبادرته للسلام، إلا أنه –أي عرفات- رفض المبادرة في قمة فاس عام 1981 تحت ضغط أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية(4)... ومع ذلك ينقل الأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني "جورج حاوي" عن عرفات قوله: "استعدوا للضربة، ولقد أديتم بضغطكم هذا إلى موقف سيؤدي إلى رفع الغطاء العربي عنا، واللهم اشهد أني بلغت"... إذ أنه وبعد رفض المبادرة في قمة فاس الأولى المنعقدة في 25-تشرين الثاني عام 1981، بدأ الغزو الاسرائيلي للبنان في حزيران عام 1982، علماً أن الكيان الاسرائيلي كان قد رفض مبادرة الأمير فهد –وبعدها مبادرة ريغان- على أنها "خطة لتدمير إسرائيل على مراحل" وأن "الاعتراف بإسرائيل ليس إلا وهماً"(5)...
وخلاصة الحديث هي أنه بين الواجب العربي الذي كان يقضي بضرورة دعم الجيش السوري والمقاومة الفلسطينية والوطنية اللبنانية في التصدي لجيش الاحتلال الاسرائيلي على الجبهة اللبنانية، وبين الرغبة الأميركية في جر العرب إلى المشاركة في مسلسل السلام ضمن أجواء التلويح بالقوة والحرب، تمت تلبية الرغبة الأميركية، فكانت مبادرة الأمير فهد قبل غزو لبنان، التي تلتها مبادرة ريغان بعد الغزو... ولئن أُقرت مبادرة فهد في قمة فاس الثانية عام 1982، إلا أنها كانت –كما تلاها من مبادرات ومفاوضات- بلا نتائج على الأرض، سوى توسيع الخلافات العربية، بالإضافة إلى ما رصدته حكومة الكيان الاسرائيلي من تحولات في خطاب الزعماء العرب حول الصراع العربي الاسرائيلي، وخاصة في موضوعيْ "السلام الشامل" و"التطبيع الكامل".
ورقة السلام الأميركية الاسرائيلية والوضع العربي
على الأرض، كانت الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) سجالاً، كأطول نزاع عسكري في القرن الماضي، وقد سجّلت هدراً كبيراً لقوة العراق وقدراته...تلاها عام 1990-1991 اجتياح الكويت من قبل القوات العراقية، والذي اعتبره المؤرخ والاستخباراتي "برنارد لويس" النهاية الفعلية لسيطرة العرب على سلاح النفط(6)، ثم وقعت حرب الخليج الثانية التي أُخرج فيها الجيش العراقي من الكويت، وقد تزامن ذلك مع سقوط الاتحاد السوفييتي... وكان لحرب الخليج وسقوط الاتحاد السوفييتي وتداعيات المشهد السياسي والعسكري في المنطقة، أثرٌ في ميزان القوى العربي الإسرائيلي ووقائع مسيرة السلام التي انطلقت لأول مرة في مؤتمر مدريد، في الثلاثين من تشرين الأول عام 1991، وقد أكد المؤتمر –الذي رعته الولايات المتحدة وروسيا- على مبدأ "الأرض مقابل السلام" وقرارات مجلس الأمن 242 و338 و425... ولكن مسؤولي منظمة التحرير الفلسطينية (حركة فتح) والمملكة الأردنية نسجوا على المنوال المصري، وحاكوا منفردين مع الاحتلال الاسرائيلي اتفاقيات "غزة أريحا" و"أوسلو" و"وادي عربة"، وذلك بما يتعارض مع حقوقهم المشروعة، ويتجاهل المطلب السوري بوحدة المسارات(7)...
وفي كانون الثاني من عام 1993، أعلن رئيس حكومة الاحتلال الاسرائيلي "إسحاق رابين" للأميركيين استعداده لاستئناف المفاوضات مع سوريا والتنازل عن جزء من الجولان مقابل السلام... لكن دمشق رفضت وأصرّت على الانسحاب الاسرائيلي الكامل مــن الجولان... وفــي آب من العام نفسه، أوفــد كلينتون وزير خارجيته "وارن كريستوفر" لإبلاغ الرئيس حافظ الأسد بتعهد رابين بالانسحاب الكامل من الجولان مقابل تطبيع كامل للعلاقات وضمانات أمنية...إلا أن الأسد ارتاب وتحفّظ على التفاصيل، مما اضطر "كلينتون" إلى اللقاء بالرئيس الأسد في السابع والعشرين من تشرين الأول عام 1994، وفيه أقرّ كلينتون بوجود تعهّد إسرائيلي بالانسحاب من كامل الجولان المحتل في إطار اتفاق متكامل مع السوريين... وقد عُرف ذلك التعهد –آنذاك- بـ"وديعة رابين"... وقد فشل الاتفاق حول مجريات تلك الوديعة في مفاوضات "مريلاند" الأميركية بين عاميْ 1995 و1996... أما بين عاميْ 1999 و2000 فقد استؤنفت مفاوضات السلام في "شيبردزتاون" بولاية فرجينيا الأميركية، ولكن دون جدوى بسبب إصرار كيان الاحتلال على الاحتفاظ بمساحات قرب بحيرة طبريا(8)...
أما بداية عام 2000، فشهدت نهاية الجولة الأخيرة من محادثات السلام في الشرق الأوسط، والتي جمعت في جنيف بتاريخ السادس والعشرين من شهر آذار، كلاًّ من الرئيسين بيل كلينتون وحافظ الأسد، حيث رفض الأسد خلالها التنازل عن أمتار قليلة من شاطئ بحيرة طبريا(9).
بداية القرن 21 وتحديثات المخطط الأميركي الصهيوني (الشرق الأوسط الجديد)
وفي الولايات المتحدة، كانت هجمات الحادي عشر من شهر أيلول عام 2001، تحديثاً جديداً لمخططها ومخطط الصهاينة ضد "الشرق الأوسط"، فكان احتلال أفغانستان، ثم التحضير لغزو العراق...
وبين غزو أفغانستان وغزو العراق، اختتمت القمة العربية أعمالها في بيروت في الثامن والعشرين من شهر آذار عام 2002، معلنةً عن مبادرة سلام أطلقها ولي العهد السعودي عبد الله بن عبد العزيز –آنذاك- والتي طالب المجتمعون من خلالها الكيان الاسرائيلي بالانسحاب الكامل من الأراضي العربية المحتلة بما في ذلك الجولان السوري وحتى خط الرابع من حزيران 1967، والأراضي التي مازالت محتلة في جنوب لبنان، والتوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين يتفق عليه وفقاً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194، وقبول قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ الرابع من حزيران 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، على أن تقوم الدول العربية بعد ذلك باعتبار النزاع العربي الإسرائيلي منتهياً، والدخول في اتفاقية سلام بينها وبين "إسرائيل" مع تحقيق الأمن لجميع دول المنطقة، وإنشاء علاقات طبيعية مع "إسرائيل" في إطار هذا السلام الشامل، وضمان رفض كل أشكال التوطين الفلسطيني الذي يتنافى والوضع الخاص في البلدان العربية المضيفة...
وبالرغم من التنازلات التي قدّمتها المبادرة السعودية للسلام، بعد عقدين تقريباً من شبيهتها التي قدمها الأمير فهد، فإن الكيان الاسرائيلي لم يتعامل جدياً معها، حيث رأى أنها صدرت عن ضعف عربي شامل، وفي أعقاب هجمات أيلول على الولايات المتحدة الأميركية... ويضاف إلى ذلك أن واشنطن كانت تتعامل مع العرب كلهم بعدائية شديدة، وسط دعوات لتغيير بعض أنظمة الحكم العربية بالقوة...بما يعني أنه لا رجعة عما خططت له الولايات المتحدة للمنطقة.
في التاسع عشر من آذار عام 2003، شنّ التحالف الأميركي البريطاني الحرب على العراق، وبعد احتلاله أتى وزير الخارجية الأميركية "كولن باول" إلى دمشق، بتاريخ الثاني من شهر أيار عام 2003 مهدِّداً وطالباً منها عدم التدخل بالشؤون العراقية" –بما يعني تأييد الاحتلال الأميركي- وحل حزب الله اللبناني وإبعاد تهديده عن الكيان الاسرائيلي، وترحيل المقاومة الفلسطينية من دمشق وإغلاق مكاتبها(10)، وتأييد خطة "خريطة الطريق" للسلام بين الفلسطينيين والاسرائيليين"... بالإضافة إلى مطالب أخرى تتعلق بالوضع الداخلي السوري، لكن مطالب "باول" ووجهت بالرفض، فيما وصفت مستشارةُ الأمن القومي الأميركي "كونداليزا رايس"، زيارة "باول" لدمشق بـ"بدايةَ تدخلٍ أميركيٍّ عميقٍ لبناء شرق أوسط جديد محوره "اسرائيل"، معتبرةً أمنَ الكيان الاسرائيلي المفتاحَ المطلقَ ليس لأمن المنطقة فقط، بل لأمن العالم، ومجددةً الالتزام الأميركي بأن "إسرائيل" ستكون دولةً يهوديةً محميةً بالمظلة الأميركية(11)...وبالتالي فـ"رايس" هنا لم تخرج عن "عقيدة التقسيم التوراتية" و"الاستراتيجية الصهيونية" منذ احتلال فلسطين.
لبنان مجدداً
في الثاني من أيلول من عام 2004، وافق مجلس الأمن الدولي على القرار رقم 1559، والذي طالب بسحب الجيش السوري من لبنان، ودعا إلى حل جميع "المليشيات" اللبنانية ونزع سلاحها، وإجراء انتخابات رئاسية "حرة وعادلة" ..لكن الرئيس اللبناني "إميل لحود" الممددة ولايته لثلاث سنوات إضافية، رفض تطبيق القرار بعد خمسة شهور من صدوره، أما في الرابع عشر من شهر شباط عام 2005، فقد اغتيل رئيس وزراء لبنان الأسبق "رفيق الحريري"... وضماناً لمرور عاصفة الاغتيال، وحسب رؤية الرئيس بشار الأسد في أن انسحاب الجيش السوري من لبنان لا يمس المصالح السورية، بل يعززها، استكمل الرئيس الأسد في السادس والعشرين من شهر نيسان عام 2005 سحب الجيش السوري من لبنان(12)، وفشلت "كوندوليزا رايس" في توظيف اغتيال الحريري لإثارة الفوضى في لبنان على الطريقة العراقية...
وكان انتصار محور سوريا-المقاومة في حرب تموز عام 2006، قد أجهض خيارات الأميركيين والاسرائيليين المباشرة بعد الحرب، إذ فشلوا في عقد تسوية سلمية مع محور سوريا-المقاومة، أو إضافة شوطٍ ثانٍ لحرب تموز، يُعيد مكانة الولايات المتحدة التي اهتزت، وهيبة الجيش الاسرائيلي التي انهارت...وباتت سوريا أمام احتمال مواجهة بديلٍ أميركي إسرائيلي للتسوية أو الحرب المباشرة، أو تدابير أخرى تفسّر ما قاله الرئيس السابق لوكالة الاستخبارات الأميركية "جيمس ولسي" في مؤتمر "هرتزليا" في نهاية عام 2006: "لقد أخطأت إسرائيل في عدم مهاجمتها سوريا في الصيف الماضي"... (13)
"أنابوليس" وتجدُّد لعبة السلام
كان السوريون يدركون أن ما لم يحققه مؤتمر "مدريد" عام 1991، لن يحققه مؤتمر "أنابوليس" في أواخر شهر تشرين الثاني عام 2007، لذا فقد كان حجم الوفد السوري المشارك في أنابوليس مختلفاً عنه في "مدريد"، وهو إن اتخذ صفة المشاركة، إلا أنه كان فعلياً –وبرئاسة نائب وزير الخارجية لا أكثر-وفد مناورة سياسية مع كل الأطراف المعنية بعملية السلام، ودعم لوفد السلطة الفلسطينية، ومراكمة الوعود الأميركية والدولية الزائفة بخصوص استرجاع الأراضي المحتلة سلماً، لا سيما بعد التصريحات الإسرائيلية المتلكئة والغامضة في إبداء نوايا جيدة تجاه موضوع الجولان المحتل، في الوقت الذي لم تكن فيه تلك النوايا تجاه الموضوع الفلسطيني مقبولة أو ذات جدوى على الأرض، ذلك أن سقف السلام الممنوح للفلسطينيين كان اتفاق "أوسلو" عام 1993، بكل إخفاقاته وما شابَهُ من خلل وخداع(14)...
وفي الوقت الذي لم يتضح فيه وجود تنسيق سوري مع الإيرانيين لحضور "أنابوليس"، إلا أن السوريين كانوا يدركون الوزن المتزايد لإيران في المنطقة، وأن أي تراجع في علاقتهم معها ستلحق بهم الضرر في مجالات متعددة، سياسية واقتصادية، لا سيما بعد تراجعٍ نسبي للمشروع الأميركي في المنطقة، وهزيمة الجيش الاسرائيلي في حرب تموز عام 2006، ثم توصيات لجنة "بيكر هاملتون" بالحوار مع دمشق وطهران... لذا فضّلت دمشق الحفاظ على الحليف الإيراني، أكثر من الانخراط في مقدمات سلام مع العدو بلا نتائج.
سنوات ما قبل مؤامرة "الربيع العربي"
لم ينفع "سلامُ الحربِ" الإدارةَ الأميركيةَ والصهيونية في إنجاب شرق أوسط جديد، منذ ما قبل غزو لبنان وإلى محاولة الوسيط الفرنسي "ساركوزي" الأخيرة مع سوريا عام 2009، كما لم تُجدِ "حرب السلام" في تحقيق الاستقرار لدول المشرق العربي منذ مؤتمر مدريد عام 1991، إلى مؤتمر "انابوليس" عام 2007، مروراً بالمبادرة العربية عام 2002... أما الحلول السورية التي استنجد بها الأميركيون للخلاص من ورطة احتلال العراق، فقد أدّت إلى خروجهم منه أواخر عام 2011، ولكن هل كان خروجهم من العراق مَخرجاً لدول المشرق العربي من أزماتها ومخاطر تقسيمها؟
يتبع...
الحواشي:
(1): أنظر كتاب "وثائق فلسطين"، جمع وتصنيف حسين العودات، منظمة التحرير الفلسطينية-دائرة الثقافة، 1987، ص 329
(2): أنظر حجازي فهد: "لبنان من دويلات فينيقيا إلى فيدرالية الطوائف"، ج3، بيروت 2013، ص 240
(3): حول مبادرة الأمير فهد بن العزيز، أنظر القصيبي غازي بن عبد الرحمن: "الوزير المرافق"، ط1، بيروت 2010، ص 179-209.
أنظر أيضاً "وثائق فلسطين"، ص 336
(4): أنظر ناجي طلال: "من الخيمة إلى الميدان"، ط1، دمشق 2019، ص 89-90
(5): أنظر مجلة "شؤون فلسطينية" التي كانت تصدر في بيروت، العدد119، تشرين الأول1981، ص 213-214
(6): "برنارد لويس" (1916-2018) مؤرخ يهودي أميركي بريطاني الأصل، مختص بتاريخ الاسلام في العصور الوسطى، وخاصةً في سوريا، وكان يرى ضرورة الحفاظ على استقرار كل من تركيا والكيان الاسرائيلي واعتماد الغرب عليهما... كما كان ينتقد جهود الاتحاد السوفييتي وحلفائه العرب ضد الكيان الاسرائيلي العنصري...أنظر حوله:
Kramer,Martin,"BernardLewis"."Encyclopedia of Historians and Historical Writing(London:Fitzroy Dearborn,1999) vol,1:719-720.
وقد اشتهر "برنارد لويس" بوضع خرائط لتقسيم "الشرق الاوسط" على أسس عرقية وطائفية ولغوية، وكان مستشاراً لإدارة الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، وخاصةً قبل غزو العراق، حيث شجّع الادارة الأميركية على غزو العراق...أنظر مقالة "مايكل هيرش " Michael Hirsh التي تحمل عنوان "عقيدة لويس"The Lewis doctrine المنشورة في شباط 2005 على الرابط:
https://www.prospectmagazine.co.uk/magazine/thelewisdoctrine
(7): حول مؤتمر مدريد أنظر ديب كمال: "الحرب السورية"، ط1، بيروت 2015، ص 298 وما بعدها...
(8): ديب: "الحرب السورية"، ص306
(9): نفس المرجع والصفحة
(10): أنظر إلى التفاصيل الكاملة لهذا الموضوع كما ذكرها الدكتور طلال ناجي في كتابه "من الخيمة إلى الميدان"، ص 131 وما بعدها
(11): أنظر الرابط: https://www.albayan.ae/last-page/2003-05-03-1.1242948
(12): ديب: "الحرب السورية"، ص 426
(13): أنظر مقالة "حسين الأمين" سوريا: الدخول في الحرب كان خياراً"...منشورة في موقع جريدة الأخبار على الرابط:
https://al-akhbar.com/Syria/256266
(14): يصف الدكتور طلال ناجي مؤتمر "أنابوليس" بمهرجان للتطبيع مع الكيان الصهيوني والاعتراف بالدولة اليهودية وإلغاء حق العودة والإقرار بضاحية في القدس الشرقية كعاصمة للدولة الفلسطينية...أنظر ناجي: "من الخيمة إلى الميدان"، ص 243-244