جهينة- وائل حفيان:
الكثير منّا لديه سؤالٌ يدورُ في مخيلته، وخصوصاً حين نجلسُ في أحد المطاعم أو الفنادق، سواء كنا من المدعوين إلى مناسبة ما أو ذهبنا برفقة عائلتنا إلى أحد المطاعم الذي يقوم بتقديم الطعام على شكل «بوفيهات مفتوحة» في المناسبات والأعياد أو حتى خلال شهر رمضان، وغالباً ما يكون طعام البوفيهات المفتوحة فائضاً بشكل كبير عن احتياجات الناس الحاضرين، ولكنّ السؤال الذي يفرضُ نفسه: أين تذهبُ بقايا الموائد الضخمة؟ هل تتمّ إعادة تدويرها، أم يُرمى بها في النفايات؟ ولكي نتعرّف على مصير هذه البقايا في المطاعم والفنادق، وهي الكميات التي تزيد على حاجة الأفراد الموجودين في المطعم الذي يقوم بإعداد كميات أكبر حتى يضمنَ كفاية الطعام المقدَّم للزبائن، أجرينا التحقيق التالي:
خطر البوفيه المفتوح!
يفضّل (سامر) الخروج بصحبة أفراد أسرته مرتين على الأقل شهرياً إلى أحد المطاعم في دمشق، التي تُعلن عن عروضٍ خاصةٍ لبوفيهات مفتوحة بأسعار مناسبة، موضحاً أنه يحبُ موائد الطعام التي يوجد فيها الكثير من أنواع الأطعمة وخاصة «المشاوي»، فهو يتذوق مع عائلته الكثير منها خلال وجبة واحدة، مؤكداً أنه على الرغم من ارتفاع أسعار هذه البوفيهات نوعاً ما إلا أن العزاء الوحيد له وأفراد أسرته هو أنهم يتذوقون ما طابَ من تلك الأطعمة التي يزيد الكثير منها.
وقال (سامر) في حديثه لـ«جهينة»: إن جدالاً دار بيني وبين صاحب أحد مطاعم الربوة في دمشق عندما طلبتُ أنا وأصدقائي لحوماً متنوعة منها «كباب وشيش»، ولكن المفاجأة أنني لاحظتُ أن لحم (الكباب) غير ساخن، وعند استفساري عن السبب همَسَ لي أحد عمال المطعم بأنه طعامٌ فائضٌ من زبائن كانوا موجودين قبل قدومنا، وهو مضطرٌ للسكوت خوفاً من قطع رزقه، مضيفاً: عندما سمعتُ هذا الكلام ذهبتُ إلى صاحب المطعم الذي نفى الأمر فور مواجهته، ما اضطرني لإكمال الغداء، لافتاً إلى أن الفاتورة كانت ضعف ما كنتُ أتوقعه.
المهّم الربح!
أما (مصطفى) الذي يعمل في أحد مطاعم بيع الشاورما بجانب جسر فكتوريا فقد قال: نتيجة الأوضاع التي نعيشها والناتجة عن الأزمة في البلاد أضطرُ للنوم في المطعم بسبب عدم توفر السكن، واكتشفتُ في إحدى المرات حصول عطلٍ في البرادات التي تحوي (سيخ الشاورما) ما أدى إلى انبعاث رائحة كريهة من اللحم، مضيفاً: بعد ذلك أخبرتُ صاحب المطعم الذي قال لي إياكَ أن تتكلم، وكالعادة تمّ تعليق الشاورما وبيعها كأن شيئاً لم يحصل، مشيراً إلى أن أصحاب المطاعم لا يهمّهم سوى جني الأرباح على حساب صحة الناس!.
موظف مختص
معظم المطاعم لديها موظفٌ خاصٌ لفرز الطعام وإعادة تدويره، كما قال (أبو ماهر) متعهدٌ سابقٌ لأحد المطاعم، مضيفاً: إن الكثير من المطاعم تقوم بتدوير الطعام وخصوصاً أثناء مناسبات العزائم والبوفيه المفتوح، إذ إن الموظف المسؤول عن فرز الطعام يقوم بإعادة تسخينه وإرجاعه إلى زبون آخر.
وأشار (أبو ماهر) إلى أن هناك الكثير من المخالفات التي يقوم بها صاحب المطعم، منها الفروّج المشوي الذي يزيد ويتمّ تسخينه ضمن «الشواية» عدة مرات وأيضاً الشاورما، داعياً الزبائن إلى تفقّد ما يتناولونه قبل إنزاله على الطاولة.
عروضٌ مشجعةٌ وتدويرٌ أكيد!
من جانبه أوضح (فادي)، عامل في أحد مطاعم حي باب توما، أن فرصة أصحاب المطاعم بالربح تتضاعف كثيراً، فهُم يعلنون عن عروض لبوفيهات أطعمة في المطاعم بأسعار مناسبة، ولكن كمية الطعام تبقى كما هي، ويتم تدويرها في (اليوم التالي) ضمن البوفيه المفتوح نفسه وخاصة الأرز والشوربات، مؤكداً أن بقايا الطعام يتمّ استخلاص الصالح منها، والبقية الأخرى يتم رميها في النفايات، مشيراً إلى أن الكميات التي تُرمى أكبر بكثير من التي تُؤكل وتُستصلح، ويكون ثمنها مرتفعاً جداً.
رأيٌ لأصحاب المطاعم
أكد صاحب أحد المطاعم، والذي رفضَ الإفصاح عن اسمه، أن كميات كبيرةً من الطعام تزيدُ في غالبية المطاعم، وخاصة البوفيهات المفتوحة والمخصّصة لأيام الصيام، لأن الصائم لا يأكلُ إلا القليل منه، موضحاً أنه على الرغم من خبرة السنوات الطويلة في إعداد الوجبات والأطعمة والبوفيهات بحيث لا تتجاوز استهلاك الزبون إلا أنها تزيد بكميات كبيرة، الأمر الذي يجبرنا أحياناً على الاحتفــــاظ بها لليـــــوم الثــــــــــاني، ومرات أخرى نقوم برميها في النفايات، وبعض الأحيان يتم توزيع الصالح منها على العمال.
وتابع: بشكل عام، إن كميات الطعام الزائد تكون كبيرةً، وخصوصاً في المناسبات أو خلال شهر رمضان، ولكنّ المطاعم لا تتأثر بأي خسارة لأن الزبون يدفعُ ثمنها كاملاً، ولذلك وفي أغلب الحالات يقوم أصحاب المطاعم بمحاولة تدوير الكميات الصالحة واستثمارها سواء بتوزيعها على الناس المحتاجين أو الموظفين داخل هذه المطاعم.
خلافٌ بين الزبون وصاحب المطعم
يتهمُ بعض الزبائن أصحاب المطاعم بالإكثار من الأطعمة والمقبّلات المغرية للزبون، وهذا جزء من المنافسة القائمة بين المطاعم، والبعض الآخر يرى أن كميات الطعام المقدّمة مناسبة في المطاعم، ولكن أحياناً يُكثرُ صاحب المطعم من كمية الطعام كي يحتسب سعراً عالياً، أي السعر الذي يفرضه، وهناك زبائن يذهبون للجلوس أو العمل، ويطلبون وجبات كبيرةً لإبداء كرمهم، فتعود الأطباق كما هي أو تمّ تناول القليل منها، هذا ما كشفه (شاكر) طبّاخ في أحد المطاعم قائلاً: أحياناً تعود صحون المقبّلات ولم يؤكل منها سوى ملعقة أو اثنتين، وبالتالي يُرمى الباقي منها ولكن إذا لم يرغب الزبون بنوعٍ من هذه الأنواع فإنها تُعاد إلى المطبخ وتقدّم لشخص آخر، مضيفاً: في بعض الحالات يلقي أصحاب المطاعم اللوم على الزبائن، حيث إن هناك زبائن غالباً ما يتركون كميةً من الطعام في صحونهم، وأحياناً يأتي زبونٌ آخر يطلب أشياء كثيرةً وعندما ينهضُ يتركُ بقية الطعام في الصحن.
«طبّاخ السم دوّاقو»
حول تلك الحالات السابقة بيّن مدير سياحة دمشق إليان خوري أنه لم تردْ إلى المديرية أي شكوى بخصوص تدوير الطعام، إذ إن كل الطعام الذي يزيد يتم توزيعه على العمال، لأن هناك 90% من المطاعم تقدّم وجبةً للعمال بشكل يومي، مستشهداً بالمثل الشعبي «طبّاخ السم دوّاقو»، مشيراً إلى أن أغلب المطاعم تجمعُ الطعام من الطاولات والصحون المكدّسة وهذا يؤدي إلى عدم الاستفادة منه مرةً أخرى.
التوعية ضرورية
وقال خوري: إن الطعام الذي يزيد هو حقٌ للزبائن، ويمكن لهم أن يأخذوه معهم عند خروجهم من المطعم، مشيراً إلى أن توعية المستهلك وحمايته أهم من الرقابة التي تُفرض على المطاعم، فالتوعية واجبٌ يقع على جميع القطاعات المسؤولة عن المطاعم ومراقبتها، وأن المستهلك هو المساهم في هذه المخالفات بسبب ضعف ثقافة الرقابة لديه، ناصحاً المستهلكين بأن يطلبوا حاجتهم الحقيقية من الطعام وعدم ترك الصحون على حالها، بل يجب أن يقوموا باستهلاك كل الطعام كي لا يُسمح باستخدامه مرةً ثانيةً من أصحاب المطاعم، مضيفاً: يجب على جمعية حماية المستهلك إقامة ندوات توعية بهذا الصدد للحدّ من المخالفات بهدف تعزيز ثقافة المستهلك حيال ذلك.
أين العقوبات الرادعة؟
وعن الآلية المتبعة في هذا الخصوص قال خوري: في حال ورود أي شكوى بهذا الخصوص نقوم - نحن المعنيين بهذا الجانب- بإرسال دورية سرّية مشتركة إلى المطعم المخالف، ونتصرف كأننا زبائن، ونمارس دورنا الرقابي، مشيراً إلى أن العقوبات التي يُعاقب بها المخالف غير كافية أو رادعة، بل يجب أن تكون قاسيةً حتى لا يقوم بتكرارها مرةً أخرى، كاشفاً أن هناك تعديلاً على لائحة العقوبات بخصوص المخالفات وهي بصدد الصدور خلال فترة قريبة، مشيراً إلى أن المطاعم التي تُخالف ستقوم بالمخالفة مرةً أخرى مهما كانت عقوبتها ما لم تُشدّد هذه العقوبة.
الرقابة شديدة
بدورها مديرة جمعية حماية المستهلك الدكتورة سراب عثمان قالت: إن دور الجمعية هو التوعية والتدقيق والترشيد، لأنها ليست جهةً وصائيةً أو تنفيذيةً، وعند ورود شكاوى كهذه تقوم الجمعية بتحويلها إلى دوريات السياحة التي بدورها تقوم برصد المخالفة وقمعها، لأن هناك تشاركية بين قطاعات الدولة كافةً، مؤكدةً أنه يجب أن تكون في المطاعم عينات من الطعام الذي سيُقدم لثلاثة أيام لتجنّب أي حالة تسمم يمكن أن تحصل وذلك من خلال فحص تلك العينات والتأكد من سلامة الطعام المقدَّم للزبائن، مشيرةً إلى أن الرقابة شديدة على المطاعم من وزارة السياحة لرصد أي مخالفة حتى لو كانت بسيطةً.
نظافة المطعم
أضافت الدكتورة سراب عثمان: يجب على المواطنين التأكد من نظافة المطعم وخدماته، وأن ينصّب كل مواطن نفسه كجهة رقابية ويطلب الفاتورة ويتأكد من الطعام الذي يُقدّم له، مشيرةً إلى أن أغلب أصحاب المطاعم يقومون بإجبار الزبائن على أصناف زائدة عن حاجتهم أو مأكولات لا تناسب وضعهم الصحي ويتم دفع ثمنها. وهنا حثّت عثمان المواطنين على تقديم أي شكوى ولو كانت بسيطةً، والابتعاد عن ثقافة «حرام أو ما بدّي ضُر صاحب المطعم»، مبينةً أن هناك الكثير من المخالفات التي يقوم بارتكابها أصحاب المطاعم، ولكنّ المواطنين لا ينتبهون إليها مثل «وضع قطع من الثلج مع العصير وتقديم أنواع من المقبّلات من دون طلبها أو عبوة المياه التي تتم تعبئتها ضمن المطعم»!.
الشاورما والفروّج الأكثر تدويراً
تابعت عثمان: إن تدوير الطعام لا يجوز القيام به لأنه في أكثر الأحيان يسبّب التسمم، ولذلك يجب أن يكون المواطن على دراية كاملة بنظافة المطعم والخدمات التي يقدّمها، مشيرةً إلى أن تدوير الطعام موجودٌ في أغلب المطاعم وخاصة الشاورما والفروّج، حيث تقوم هذه المطاعم بتدويرهما رغم تعرضهما للهواء والشمس، مؤكدةً أن الشكاوى التي تردُ إلى جمعية حماية المستهلك تنقسمُ إلى نوعين: أولاً عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، وثانياً عن طريق الفاكس أو «الواتس أب»، مبينةً أن عدد الشكاوى متفاوتٌ، وتتعلق بجميع الخدمات التي تشمل كل ما يمسّ المواطن في حياته اليومية.
أخيراً..
ينبغي أن يكون المواطن هو الرقيب على تلك المطاعم، وأن يختار مطعماً يثق به من خلال طلب حاجته من الطعام، وفي حال زادّ منه شيء يجب أن يقوم بخلطه كي لا يتيح لصاحب المطعم إعادة تدويره وتقديمه لشخص آخر، كما يجب إقامة ندوات وإعداد دراسات وبحوث حول كيفية توعية الزبائن بعدم الإسراف وطريقة اختيار الطعام وذلك من خلال وضع نشرات على طاولات المطاعم ترشدُ الزبائن وتحذّرهم من المخاطر التي تنتجُ عن تدوير الطعام.
انتقال الأمراض المُعدية
لمعرفة الآثار الجانبية والصحية الناتجة عن تدوير بقايا الطعام التقت «جهينة» الدكتور رشاد مراد الأستاذ في كلية الصيدلة بجامعة دمشق والذي قال: يجب التخلّص من وجبات الطعام المقدَّمة حتى لو لم يتم تناول شيء منها، لأنه بمجرد تعريض الطعام للهواء يصبح ملوثاً، مضيفاً: إن الكثيرين يجهلون مدى الأضرار الصحية الناتجة عن تناول بقايا الوجبات التي يطلبون تغليفها في المطاعم، ولاسيما أن تلوّثها بالبكتيريا أو الغبار المنتشر في الجو يجعلها مصدر خطر، أضف إلى ذلك أن هذه الوجبات قد تُسبب انتقال الأمراض المُعدية، خاصةً أن العطس أو السعال أمران واردا الحدوث خلال تناول الطعام.
تحذير وتوعية
حذّر أطباء التغذية وخبراء الصحة من تناول بقايا الطعام التي يتمّ حفظها في الثلاجة ويعادُ تسخينها مرة أخرى بسبب مضاعفة خطر التسمم الغذائي في حال عدم حفظها بالشكل الصحي الصحيح، مرجعين ذلك إلى أن عملية طهي الطعام قد لا (تقتل) دائماً كل مسببات الأمراض من البكتيريا التي تعيش عليه، كما أكد عدد من أطباء الجهاز الهضمي والكبد وجراحة المناظير وجود خلط بين «التسمم الغذائي والنزلة المعوية»، مبينين أن حفظ بقايا الطعام في الثلاجة أكثر من خمسة أيام يضاعف مخاطر التسمم، وأن هذا «التسمم الغذائي» ناتج عن وجود منتجات البكتيريا أو البكتيريا نفسها في الأطعمة المتناولة بسبب سوء التخزين أو التبريد، معتبرين أن التسمم يعدّ أحد أنواع النزلات المعوية التي هي عبارة عن حدوث التهاب في الأمعاء الدقيقة، محذرين من حفظ اللحوم البيضاء والحمراء –بعد استخدامها- ما يعرّضها للبكتيريا وبالتالي تؤدي إلى التسمّم.
من جانبها منظمة الأغذية والزراعة الدولية «الفاو» أكدت في تقارير وإحصائيات لها أن قيمة الطعام المهدور وبقايا الوجبات التي تلقى في القمامة تكفي لإطعام قرابة مليار إنسان حول العالم، وأن معدل إهدار الغذاء في العالم يبلغ سنوياً مليوناً و300 ألف طن، مشيرةً إلى أن هذه الكميات الضائعة تعادلُ كمية إنتاج بلد من البلدان القابعة تحت خط الفقر، وتكفي لإطعام 842 مليون جائع حسب إحصائيات عام 2014.