جهينة نيوز
عندما انهار سد زيزون بمنطقة الغاب في 3 حزيران من عام 2002 كنت في فيينا , أشارك في اجتماعات لجنة استخدامات الفضاء الخارجي للأغراض السلمية التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة , وقد استغليت وجودي هناك وطلبت من أحد الأصدقاء الموجودين في الاجتماع أن يساعدنا في تأمين صور فضائية للمنطقة المنكوبة قبل وبعد انهيار السد لتحديد الأضرار والمساحات الزراعية التي غمرتها مياه الفيضان الناتجة عن الأنهيار , وقد وعد الصديق بتأمينها مجانا" وأرسلها لنا بعد حوالي الاسبوع , وقمنا بناء عليها بإجراء الدراسة ووضع الخرائط والمخططات , التي تبين الأراضي الزراعية والمناطق المغمورة بالمياه نتيجة هذا الانهيار والتي بلغت 9200 هكتار . وقدمت الدراسة للسيد رئيس مجلس الوزراء الدكتور محمد مصطفي ميرو في ذلك الوقت باعتباره الرئيس المباشر والتي حولها للجهات المختصة للإستفادة منها في تقدير الأضرار وتخفيف المنعكسات السلبية لهذه الكارثة.
لقد بني هذا السد وغيره من السدود في المنطقة , التي يتم تغذية بعضها بالمياه بواسطة الضخ المكلف جدا" كسدود زيزون وقسطون وأفاميا, بعد تجفيف مستنقع الغاب في عام 1958.
يمتد سهل الغاب الذي كان مليئا" بمعظمه بالمياه قبل التجفيف لمسافة حوالي 80 كم طولا" وبين 10- 20 كم عرضا", يحده غربا" سلسلة الجبال الساحلية التي يصل ارتفاعها الى 1500م وشرقا" جبال الزاوية بارتفاع 600م وشمالا" مدينة جسر الشغور وجنوبا" نهوض مصياف. وهو حوض انهدامي تشكل خلال الفترة مابين مليونين ومليون سنة, في نهاية البليوسين وبداية الحقب الرباعي نتيجة تأثير فوالق الانهدام العربي الذي يبدأ من من البحر الأحمر في الجنوب حتى الأراضي التركية في الشمال ماراً عبر خليج العقبة ووادي عربة في الأردن والبحر الميت وغور الأردن وبحيرة طبريا وسهل الحولة ثم البقاع اللبناني حيث يأخذ اتجاه شمال شرق ثم يتابع في الأراضي السورية باتجاه الشمال عبر البقيعة ومصياف ووهدة الغاب حتى جنوب تركيا على امتداد أكثر من 1100كم, ولا زالت حركة هذه الفوالق مستمرة حتى الآن بمعدل نصف سم بالسنة
يتراوح ارتفاع وهدة الغاب بين 150-180م فوق مستوى سطح البحر. يمر ضمنها
نهر العاصي ويوجد العديد من الينابيع على أطرافها الشرقية والغربية كنبع قلعة
المضيق واشتبرق والزرقاء وأبو قبيس وغيرها .
يوجد ضمن الوهدة بعض البراكين الحديثة التي تشكلت في أواسط الرباعي والتي شكلت حاجز طبيعي للمياه في جنوب جسر الشغور , مشكلة بحيرة طبيعية، انتشرت فيها الأسماك وأعشاب مائية عديدة ، وطيور متنوعة عادية وبرمائية
وقطعان "الجاموس" المحبة للمستنقعات المائية التي كانت منتشرة بكثافة في السهل، وكانت تستخدم المراكب البدائية في التنقل بين أطراف المستنقع وقراه .
في نيسان من عام 1952 قامت إدارة مشروع الغاب بإجراء الدراسات اللازمة لتجفيف مستنقع الغاب. وبنتيجة هذه الدراسات تم كسر العتبة البازلتية في القسم الأسفل من الغاب عام 1956 بعرض 11 ـ 30 متراً وعمق 4 ـ 6 أمتار، وتم تصريف المياه تماماً عام 1958. فتحول مستنقع الغاب إلى سهل خصب تم توزيع أراضيه لاحقاً على الفلاحين عام 1969 بموجب قانون الإصلاح الزراعي..
من المعروف بأن سوريا تقع في المناطق الجافة وشبه الجافة وأكثر من 60 بالمئة من أراضيها يسقط بها أقل من 200 مم سنويا" من الأمطار , فهل يعقل أن نجفف بحيرة طبيعية موجودة لدينا ونحن بأمس الحاحة للمياه ونبني السدود بعشرات ومئآت المليارات لنجمع قطرات المياه الهاطلة ؟ ونملأ بعضها بعشرات ملاين الأمتار المكعبة من المياه بعمليات الضخ المكلفة جدا"؟؟؟. إنه سؤال العجب.
لقد كانت تؤدي هذه البحيرة من خلال عمليات البخر التي تتم لمياهها إلى تكثيف الغيوم وتساقط الأمطار على مسافات تتجاوز 100 كم شرقا" وشمالا" وجنوبا" وكانت تغذي حوض السلمية والصبورة والأحواض الأخرى في مناطق وبادية حماه بالمياه السطحية والجوفية والتي جف معظمها حاليا" .
فعلى الرغم من النتائج الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة لتجفيف مستنقع الغاب، إلا أنه أدى إلى انخفاض كبير في الرطوبة النسبية في وسط البلاد نتيجة انخفاض معدل التبخر، مما جعل مناخ المنطقة جاف صيفاً. كما أدّى التجفيف إلى تراجع تغذية الطبقة العليا من المياه الجوفية الصالحة للزراعة والشرب التي تمتد على عمق 50 ـ 70 متراً عن سطح الأرض، وتحتها طبقة المياه الجوفية الغنية بالمياه الكبريتية.
لقد ظهرت آثار هذا التجفيف خلال المراحل الأولى من تنفيذ المشروع، حيث تراجع هطول الأمطار اعتباراً من من عام 1958 ولعدة أعوام متتالية في المناطق الوسطى والشرقية من البلاد، وتحديداً شرق حماة حتى وادي العزيب وأثرية على أطراف البادية السورية. مما أدى إلى القحط وعدم نمو المحاصيل البعلية من قمح وشعير، ويباس الأشجار والشجيرات، وعدم تجدد النباتات الرعوية السنوية. فانعكس ذلك سلبيا" على الثروة الحيوانية والزراعية .
وانتشر تملّح الأراضي نتيجة قلة مياه الري وضعف تصريفها وارتفاع درجات الحرارة، مما أدى إلى صعود الأملاح وتركزها في الطبقة السطحية من التربة بسبب التبخر والخاصية الشَعْرية.
في دراسة علمية نُشرت عام 2012، بيّن باحثون من جامعة تشرين والهيئة العامة للبحوث الزراعية أن العجز المائي في ذلك الوقت في الموازنة المائيـة لسهل الغاب يبلغ 137 مليون متر مكعب في السنة. وقد ازداد هذا العجز حاليا", وهـو ناتج عن خفض تدفق نهـر العاصي إلى النصف نتيجة بناء السدود عليه، إلى جانب تغيير الخواص المائية والبيئيـة لحوض العاصي بفعل تجفيف مستنقع الغاب ومشاريع الري التي تبعته، وانخفاض كفاءة شبكات الري إلى 40 في المئة بسبب قدمها، وازدياد الطلب على المياه لأغراض الزراعة والصناعة، وازدياد حفر الآبار الارتوازية حيث يوجد أكثر من 5200 بئر عاملـة في العاصي الأوسط، ما أدى إلى انخفاض غزارة تدفق الينابيع وجفاف بعضها وانخفاض منسوب المياه الجوفية.
بدلا" من التجفيف كان من الأفضل والأجمل والأكثر اقتصادية تعميق البحيرة وتنظيفها وتحسين بيئتها وتهذيبها والحفاظ على هذه المياه وحسن ادارتها وزيادة عدد القوى العاملة فيها لتربية الأسماك وزراعة الأرز وتنمية الثروة الحيوانية وخاصة تربية الجاموس والأبقار والطيور البرمائية وبقية الحيوانات الداجنة . وبناء القرى النموذحية على طرفي البحيرة شرقا" وغربا" , وتنمية السياحة وبناء المنتجعات السياحية , حيث تتميز المنطقة بطبيعة خلابة قل نظيرها.
في ضوء الواقع الحالي لمنطقة الغاب وتملح الترب ونقصان المياه, وفي ضوء الجفاف الذي أصاب المنطقة الوسطى من سوريا والأضرار الذي نتجت عنه وانعكاس ذلك على التوزع السكاني واستثمار هذه المناطق , واستنزاف المياه الجوفية فيها , أرى أنه من الضروري على وزارة الزراعة ووزارة الموارد المائية ووزارة الإدارة المحلية والبيئة وبقية الجهات المختصة إجراء دراسة جدوى اقتصادية وبيئية لإعادة البحيرة إلى سهل الغاب ودراسة منعكسات ذلك على الداخل السوري في المنطقة الوسطى سكانيا" وانتاحيا" وببئيا" ويجب على هذه الوزارات عدم الاستهانة بهذا الأمر ودراسته جديا" لأن منعكسات الجفاف المستقبلية والتغير البيئي في هذه المناطق ستكون أسوأ بكثير مما هي عليه الآن .
فهل سنرى آذان صاغية لهذا الأمر ؟
22:22