جهينة نيوز خاص
لا شك أننا نعيش جميعاً في سورية الآن ضمن مجموعة مؤثرات سياسية واقتصادية واجتماعية وإعلامية ضخمة، طرأت وتمخضت عن ما يزيد على عقد من السنين شهدت فيه البلاد –وما زالت- أصعب أزمة في تاريخها الحديث، وبات لتصرفات الفرد –أياً كان موقعه وحجمه ومكانته- معيارٌ نحتت الأزمة معالمه.
وفي بيئة الفن والفنانين السوريين، يأتي مفعول المؤثرات المذكورة أكبر، فللفنان صفة قيادية في مجتمعنا –شئنا أم أبينا- يمنحه إياها الجمهور، سواء بناءً على شخصيته أو الأدوار الدرامية التي لعبها ويلعبها، وعموماً، بناءً على تخصصه الفني الذي يجمع ما بين العواطف الانسانية والقيم.
"النوري" من أداء دور تمثيلي إلى محنة الارتجال في الاذاعة
وكما نعرف، فالفنان عباس النوري ضيف قديم جديد في برامج الاعلام السوري، ودائم الاستضافة في أشهر محطات ذلك الاعلام، من فضائيات وإذاعات وصحف ومجلات ومواقع إلكترونية، ولكن الحظ السيئ –له وللجمهور-هو الذي قاده إلى استديو إذاعة المدينة المحلية في هذا التوقيت من الواقع السوري، فالسنة هي السنة الحادية عشرة من الأزمة الصعبة، والشهر هو شهر كانون الثاني الأكثر وطأة بين شهور السنة، وقد زادته وطأة المنخفضات القطبية شديدة البرودة، والتي ترافقت مع خدمات حكومية سيئة تحدث عنها جل الاعلام السوري، من رسمي وخاص واجتماعي، فكثر الحديث عن معاناة جماعية من موضوع التقنين الكهربائي، وصعوبات في الحصول على المحروقات والخبز، بالإضافة إلى إفلاس شرائح كبيرة من الناس وارتفاع الأسعار الجنوني وتخبُّط الكثير من الأُسر في تدبير شؤون معيشتها اليومية...
وكل ذلك كان عبئاً على الفنان عباس النوري داخل استديو المدينة، فأجواء البلد والجمهور والاستضافة الإذاعية –بأسلوب مذيعها باسل محرز- أحاطته بمسؤولية كبيرة، وكأنه استُدعي ليقول كلمته في كل الأوضاع.
ولا شك أن النوري لم يكن على موعد مع تصوير مشهد درامي ليتقمّص شخصية خيالية ويحفظ عن ظهر قلب ما كتبه له المؤلف، وما اتفق عليه مع المخرج، وإنما كان عليه أن يكون "عباس النوري"، المواطن السوري المشهور بفنّه والملتزم بمبادلة جمهوره الحب والاحترام، فوقع تحت مباغتة "اللا نص" المسبق أو المحضَّر سلفاً، فكان ما كان من لقاء أثار الكثير من الجدل.
وقد استدعى ذلك بث حلقة إضافية معه للتخفيف من حدة الجدل، ذلك الجدل الذي وصل حدود تهديده من قبل بعض الغاضبين، برفع دعوى قضائية عليه بتهمة الاساءة لحزب البعث، بعد وصف شعاراته بـ "الخاطئة والمضحكة"، ثم الجيش، الذي سماه بـ "العسكر" في لقائه الاول على موجة "المدينة"، متهماً إياهم بالسيطرة على الحكم والدستور والثقافة في سورية التي كانت -على حد قوله- بلد الديمقراطيات بانتخاباتها وأحزابها، ونموذجاً ديمقراطياً عالمياً، مؤكداً أن الدول العربية كافةً بما فيها دول الخليج العربي تمتلك حريات أكثر مما هو موجود في سورية، حيث يمكن أن يحذف اسم شاعر من الوجود لمجرد اختلافه بالرأي مع الدولة، وأضاف النوري متسائلاً كيف للمواطن السوري أن يحرر فلسطين أو يصلي في القدس ودخل المواطن الفلسطيني داخل مناطق سيطرة السلطة الفلسطينية أكثر من عشرة أضعاف دخل المواطن السوري...كما تطرق النوري في مجمل حديثه إلى ما سماه "سرقة البنك المركزي السوري" ذات يوم دون أن يتجرأ محامٍ على رفع دعوى ضد من سرق البنك...
استدراج ثم انسحاب واستدراك!
وكانت إذاعة "المدينة" قد حذفت –من خلال تصرف غير مدروس- المقابلة من منصاتها على وسائل التواصل الاجتماعي، بعد ردود فعل مختلفة، مما تطلب بث حلقة إضافية مع النوري يوم الأحد الواقع في 30/1/2022، فاعتبر النوري فيها أن كلامه قد "تم اقتطاعه من سياقه"، متحدثاً عن إنجازات الجيش العربي السوري الذي "يقاتل في أكثر من جبهة وأكثر من معركة"، ولولاه –حسب النوري- لا يمكن أن استمر في العيش بمنزلي أنا وغيري".
زملاء المهنة محامو دفاع
وكان بعض الفنانين من زملاء النوري قد دافعوا عن وطنيته، فوصف الفنان "أيمن زيدان" النوري بأن "له الحق في التحدث عن قراءته السياسية لتاريخ وطنه، ولنا كل الحق في أن نتفق أو نختلف معه لكن لا يحق لأحد برأيي أن يشكك بوطنيته"... وأضاف أن "سياسة التخوين والإقصاء وتكميم الأفواه لم تعد مجدية لأنها لا تعبر عن منطق الحياة التي ننشدها، ولكل منا الحق أن يكون حراً تحت سقف الوطن والفنان عباس النوري لاريب انه كان وسيظل فناناً وطنياً بامتياز".
ومن جهتها تضامنت الفنانة شكران مرتجى مع زميلها الفنان عباس النوري بـ "وسم" تضامني إلكتروني مبررة إياه بـ "مواجهة حملة تخوين وتحريف لكلام النوري".
أما الفنان "فراس ابراهيم" فنفى أن تكون تصريحات النوري "تورطاً في العمل السياسي"، مضيفاً أن السياسة لها رجالاتها ولا يحتمل الأمر أساساً أي زيادة في عددهم"، الأمر الذي أكده النوري نفسه حين قال في الحلقة الثانية للـ "المدينة" إنه ليس بطلاً وأن مشروعه ثقافي، وأن ضرورة الثقافة تتطلب أن أشاغب"... وختم النوري بالقول لا يشككن أحد بوطنيتي لأنني لا أشكك بوطنية أحد، وأتمنى أن أصل إلى وطنية الجندي المرابط على حدود إدلب".
هل أخطأ عباس النوري؟
بالطبع ما كان يجدر بـ "النوري" الانزلاق إلى حد انتقاد حزب البعث والجيش العربي السوري بوصفه –في مرحلة ما بـ "العسكر"، ذلك الوصف الشائع لانتقاد الجيوش في العالم... والنوري الذي اختص بالتاريخ قبل انخراطه في الفن، يعرف تماماً أن الجيش العربي السوري منذ تأسيسه بعد الاستقلال، دافع عن فلسطين وحارب من أجلها ومن أجل لبنان وغيره، وكان حزب البعث العربي الاشتراكي دافعاً فيما بعد لهذا الجيش لكي يستمر في ثوابته ومبادئه القومية، وصولاً إل عام 2011 ودفاع هذا الجيش المستميت عن سورية ووحدة أراضيها وديمقراطيتها المكتسبة عبر العصور والأحداث، تلك الديمقراطية التي إن شاء البعض مقارنتها مع ديمقراطيات البلدان في العالم، فلا يجب أن تُقارن مع ديمقراطية دول الخليج العربي تحديداً...ودون الدخول في تفاصيل المقارنة حتى تاريخه، يكفي أن نقول إن الديمقراطية السورية قد حافظت على الشعور القومي العربي عند المواطن السوري، رغم ما تعرض له هذا الشعور من حرب إنهاء وضغوط في المنطقة، رضخ لها فقط الديكتاتوريون من الحكام العرب، ولئن سُجل في سورية بعض الانتهاكات الديمقراطية، فهي تُحسب على أشخاص وتصرفات فردية غير مسؤولة، وليس على فكر دولة.
ومن ناحية أخرى، أخطأ "النوري" في ضرب أمثلة شائعة دون أدلة مؤكدة، كموضوع "سرقة البنك المركزي"، الأمر الذي يعد وقوعاً في فخ الضخ الاعلامي الخارجي، كما أخطأ في توصيف وتبرير حالة الرخاء المادي التي يعيشها فلسطينيو الداخل المحتل، فالاحتلال الاسرائيلي يتعمد أن يكون دخل الفلسطينيين هناك جيداً –مقارنة مع عرب اخرين في دول أخرى- وذلك لغرض الدعاية ولأهداف سياسية احتلالية بحتة، وبالتأكيد فهذه ليست ميزة يجب أن يفرح لها الفلسطينيون، لأنها نوع من فرض السيطرة الاسرائيلية عليهم وعلى قادتهم...ونضيف هنا للفنان النوري أن ضخ الأموال سياسة إسرائيلية متبعة في المنطقة، وسيتبعها هذا الاحتلال أكثر من خلال عدة أساليب لاستثمار الإفلاس العام في المنطقة لصالحه، ولعلنا نحذر شعوب المنطقة من ذلك.
خاتمة
لا شك –بالتأكيد- بوطنية الفنان عباس النوري وغيرته على بلده، ولو يُعطى المزيد من الوقت الإذاعي، لاستطاع ضبط ما يريد أن يقوله وإيصاله أوضح للناس، لا سيما وأنه معتاد –بحكم مهنته- على التحضير لما سيقوله، لكن براعة "محرز" أربكته وأخرجته عن المألوف في اللقاءات الإذاعية المتلفزة.
16:28
02:32