جهينة نيوز- بقلم أكرم إسماعيل نيوف:
قضيت زهوة سنوات عمري في ربوع مدينة دير الزور عروس الصحراء الفاتنة وترعرعت على ضفاف فراتها العظيم. لم نكن ندرك أن شمسها الملتهبة التي زينت وجوه صباياها بسمرة قلّ نظيرها كانت ترسلنا لنستريح وإياها على شط الفرات وتحت ظلال نخيله. مع اللحظات الأولى تتلاشى فينا مساحة الضيق وتتسع لدينا ساحات الفرح والنشوة والأمل. يمر الوقت سريعاً فرحاً مرحاً يسابق أقدام الأولاد مع أهلهم، ويرسم أجمل الحكايا في عيون الصبايا. كل ذلك والشمس تستحم وتستجم على تعرجات أمواجه لتغفو فجأة بين ذراعيه مفسحة المجال للقمر ليرسم لتلك الحكايا أروع الصور وليستفز فينا حب الحياة وإبداع الكتابة وأمل بغد أكثر إشراق وجمال. هكذا تتدحرج الأيام الديرية وكذلك الحموية لترسم قوس قزح على كل الخارطة السورية.
هذا غيض من فيض من أيامنا وليالينا الفراتية وبعض من لوحة سورية فسيفسائية رائعة أبدعها الخالق فأحسن إبداعها. بين الحين والآخر كنت أشد الرحال إلى مسقط رأس أبائي وأجدادي إلى مدينة السلمية ابنة حماة الجميلة وعندما بدأت أرى الشحوب على وجهها والعطش الذي أصابها كنت أتمنى أن يمتد إليها شريان الفرات العظيم ليعيد لوجهها جماله ولتنبض من جديد ثقافة وأصالة وجمال. محاولات ومحاولات.. آمال وعثرات كلها كانت تدغدغ أحلام أبناء السلمية برؤية الفرات وهو يقترب ليعانق العاصي ويتأسيا معاً من قسوة الطبيعة والطباع، حتى أن الفرات يحلم أن يجري في أقنية السلمية الـ365 التاريخية ولكي تنبض قناة العاشق من جديد والتي امتدت 150 كم بشكل متعرج لتروي شعب حبيبة أمير السلمية شعب أفاميا والذي كان هذا مهر أميرتها وسيبقى هذا الحلم يداعبنا حتى يأتي من يوقظه ويرسمه واقعاً، وكل الورقيات تبشر بذلك بانتظار عودة الأمن والأمان إلى ربوع وطننا الحبيب لتنطلق من جديد عجلة البناء والنماء.
في كل زياراتي للسلمية كنت أقتطع بعض الوقت لزيارة نهر العاصي في مدينة أبي الفداء الرائعة بجمالها وسكانها وكنت أختلس أجمل الأوقات على ضفاف العاصي أستمع إلى حنين نواعيره، وأنقل له حب وحنين الفرات وحزنه على سقوط جسره المعلق على يد شُذاذ الآفاق الذين تكالبوا علينا من أصقاع الأرض. تتر هذا الزمان. اغتالوا براءتنا وجمالنا. أبكوا عيوننا وأدموا قلوبنا. سرقوا فرح أطفالنا ونهبوا آثارنا. لكنك أيتها الناعورة العظيمة ستبقين شامخة صامدة صمود أهلك رغم كل التحديات في صوتك أنين وحنين يذكرني بالفرات الرائع وبطيبة غالبية أهله. صحيح أن الفرات والعاصي ينبعان من مكانين مختلفين لكن سورية وحدتهم بطهر ترابها وقلوب أبنائها. سأنقل لكم ما قاله العاصي لي في آخر زيارة: لا تحزن يا صديقي صحيح أنك تركت بيتك وملعبك وجيرانك وفراتك ومساحة قلمك في جريدة الفرات لكنك وكما أخبرتني وجدت نفس الطهر في القلوب ونفس مساحة الجمال والحب على ضفافي ووجدت قلوباً سورية طيبة نقية في جريدة الفداء شقيقة الفرات أفسحت مساحة لقلمك على صفحاتها وفي قلوب قرائها. صحيح أنهم هجّروك من بيتك. لكنك وجدت بيوتاً كثيرة وقلوباً وفيرة تزخر بالحب والحياة. لقد خربوا جسوراً عديدة لكنهم لم يفلحوا بتخريب الجسور التي تربط بين قلوب السوريين. لقد نصبوا حواجز في كل مكان لكنهم لم يستطيعوا أن يقيموا حواجزهم بين قلوبنا. الأزمة سيئة وقاسية بكل المقاييس هي لم تستطيع بشراستها وقسوتها أن تنهينا لذلك نراها من حيث لا تدري تقوينا. لقد جمعتنا في التحدي فوجدت الديري والحموي والحلبي و... الخ وكل سوري شريف ينتمي إلى هذه الأرض بجذوره يتقاسم اللقمة والمسكن والحلم مع السوري الآخر ما يجمعنا ليست هوية في سجل مدني. ما يجمعنا هو حبل سري يربطنا جميعاً في رحم هذا الوطن الحبيب الذي أنجبنا جميعاً. لقد كانت سورية وطناً بأهلها وناسها لكنها ستصبح بعد الانتصار أمة بأهلها وناسها وكل محبيها على امتداد العالم. ستبقى أيها العاصي عاصياً بأهلك ومحبيك على كل الحاقدين والمارقين والمتآمرين، وستبقى أيها الفرات عذباً فراتاً لكل أبناء سورية وملعباً لفراشاتها وأطفالها، وواحة لعصافيرها وذكريات عشاقها. وستبقيان معاً أيها الفرات والعاصي تنشران الخير والخضرة وتنثران من على شفاه الشعراء والأدباء أجمل القصائد وأعذب الكلمات. سترسمان غداً أكثر إشراقاً ونقاء على خارطة سورية الأبية. على كل من أساء لهذا الوطن بأي شكل من الأشكال فعلاً أو تقصيراً أن يتوضأ ويتعمد ويتطهر بمياه هذين النهرين العظيمين ويشرب منهما ليتطهر من الداخل والخارج. بهذا وبمتابعة العمل يداً بيد نعود لسوريتنا لحضن وطننا ولحكايات أيام زمان الجميلة. لنرسل قلوبنا مع جريان النهرين لتزرع في أي مكان تصل إليه بذور حب السوريون لبعضهم وعشقهم لأرضهم. إلى كل وطني وأبنائه ألف تحية وسلام. سورية ستبقى بإذن الله مقاومة وجميلة. ويا جبل ما يهزك ريح.
13:13