جهينة – أحمد علي هلال:
راهبة.. لكنها في محاريب العلم والتربية والمعرفة، هي المنذورة للنور حينما يصيرُ عملاً باهراً، هي الساهرة في ضوء أرواحهم حتى تحرسَ ابتسامتهم بل تصنعها من مجمر الألم إلى فضاءات الفرح.. هي أمُّ الشهداء وسيرتها كثافة سيرة الأم الكبرى سورية، وفي رحلتها المديدة مع أبناء وبنات الشهداء نقفُ كثيراً أمام مواقف باذخة ترتقي بالسيرة لتجعل منها أمثولةً تُروى، وأدّلها أن أبناء وبنات الشهداء هم الأبناء الذين أنجبتهم كما سورية التي أنجبت الشهداء، لكنها وهي المعطاء مَنْ تعمل بصمتٍ بليغٍ وأعمالها تتحدث عنها، كانت المثال ولا تزال المثال على قوة الروح السورية التي بلسَمَت جراح أبناء الشهداء، ومثّلت الحضن الدافئ لهم، بل العائلة الكبرى لهم، وإن ترجّل آباؤهم عن صهواتهم شهداء ليرتقوا ذرا المجد ظلّ أبناؤهم يشقّون دروب العلم ويغرسون قيم الانتماء للوطن، يحملون الرسالة أبداً ليكونوا امتداد الشهداء شهوداً في الأزمنة الأخرى.. هي صانعة الفرح والمسرّات وذلك ما هجَسَت به الدكتورة شهيرة فلوح المدير العام للهيئة العامة لمدارس أبناء وبنات الشهداء، واضطلاعها بدورٍ ريادي مشرّفٍ، جوهره ليس الانتقال من الحزن إلى الفرح فحسب، بل صناعة الحياة واستمرارها وديمومتها ثقافةً ووجوداً.
مسيرة دالة
قرية بصير في الجنوب السوري من شهدت ولادتها لكي تنتقل مع أسرتها إلى الأردن وهناك تشكّلت طفولتها، ونمَتْ لتأخذ أول دروسها في مدرسة راهبات الناصرة في عمّان، وتدرجت في سلّم التعلّم ونيل العلم لتدرس في الجامعة الأردنية وتعود إلى سورية، وتثبت وجودها انتساباً إلى الاتحاد النسائي- فرع اللاذقية، وتقوم بتدريس دورات محو الأمية، وتبقى في الاتحاد النسائي وترتقي إلى رابطة الاتحاد، وتشارك في تأسيس الوحدات النسائية في معظم قرى محافظة درعا إثر انتقالها إليها. ومن أجل نجاحاتها المتواترة ودعمها حقوق المرأة ورعايتها الطفولة، رشّحها القائد الراحل الخالد حافظ الأسد لإدارة مدارس بنات الشهداء في سورية، وكان ذلك بعد انتهاء عملها في مجلس الشعب في26/ 11/ 1981، تقول المشرفة على مدارس أبناء وبنات الشهداء: كثيراً ما تحملني الذاكرة إلى يومٍ مشرقٍ في حياتي، كان لي فيه شرف اللقاء بالقائد الخالد حافظ الأسد، وتشرّفت بأن أحمل أمانةً وطنيةً غاليةً كُلفت بها وهي «مشرفة عامة» على مدارس بنات الشهداء، وما زال يحوطني شعور بالاعتزاز بأنني أمُّ تحملُ بين جوارحها حباً عميقاً لكل ابنة شهيد.
ألق الرسالة ومكابدة الصعاب
مدارس أبناء وبنات الشهداء، هذه المؤسسة- التي تطورت وامتدت في جغرافيتها، والأكثر بلاغةً هنا امتدادها في تأصيل رسالتها بوصفها تضمّ أبناءً يشكلون النسيج السوري المتنوع، فآباؤهم الذين استشهدوا في أكثر من مكان دفاعاً عن وحدة التراب السوري وحّدوهم على دلالة سورية التنوع والممتدة في عمق التاريخ- رأت في هؤلاء الأبناء أن يكونوا كما آبائهم وترجمان أحلامهم، أن يشبهوا آباءهم وأن يحملوا في قلوبهم ما بدأه أولئك الآباء، وينطلقوا مما انتهوا إليه.
وكانت الحرب التي شُنت على سورية، والتي نزفت فيها أجيال من الشهداء في المواجهات الضارية، من جعلت أحلام الصغار تكبرُ سريعاً، وهي الهاجسة بمعنيين كبيرين: معنى الشهادة، ومعنى الوطن وجدلية العلاقة بينهما، أسئلة ظلت تمورُ في أذهانهم وأفئدتهم لكي تشي بصيرورات وعيهم لما يُحاك ضد بلدهم سورية.. وكان أمام د. شهيرة فلوح الكثير من المهام الآنية والمستقبلية في ضوء تزايد أعداد أبناء الشهداء، وهي المنتبهة جيداً إلى سؤال ذي مغزى وجّهه لها زائرٌ أجنبي في زمن مضى: ما حاجة سورية لهذه الصروح (مدارس أبناء وبنات الشهداء) المشيّدة مادام البلد متجهاً نحو سياسة السلم؟ أجابت د. شهيرة فلوح بثقةٍ وهدوء: إن القائد المؤسّس الراحل حافظ الأسد قال: «إننا دولة مواجهة في وجه العدو الصهيوني، وإذا أردنا نحن السلام لن نأمَنَ جانبهم، وإن هذه المدارس لن تغلق حتى لو لم يكن فيها سوى طالبة واحدة».
من الألم إلى الفرح
منذ تكليفها بهذه المهمة الجليلة أواخر عام 1981، طلب منها القائد المؤسّس حافظ الأسد أن تكون أمّاً لأبناء الشهداء، وذلك ما ضاعف مسؤوليتها والعمل على دراسة وضع المدرسة بشكل دقيق حتى ينتقل الأبناء من حالة الألم إلى الفرح، ولتحقيق ذلك أُحدث قسم الإرشاد النفسي مباشرة وكان هناك خمسة مدرّسين لكل المراحل من أجل دراسة المشكلات الخاصة بالطلاب والاضطلاع عليها، وكيف كانت تتعمّد التواصل معهم بجلسات تشبه الجلسات العائلية وكما تجتمع الأسرة لمعالجة الكثير من مشكلاتها.
أمومة أبناء الشهداء
تتسعُ معاني استحقاق الأمومة وتتعمّق دلالاته لتطول أبناء الشهداء المنتشرين في كل محافظات القطر العربي السوري، فهي بدأت مع 700 طالبة ثم اتسع هذا العدد ونما، لاسيما خلال المحن والحروب، ما يُملي على الأم التي أحبّها الله أدواراً أخرى مختلفة للتعامل مع الإشكاليات الطارئة واجتراح الحلول المناسبة لها، في تجربةٍ ستكتبُ ريادتها لأن آفاقها اتسعت لتضمّ غير أبناء الشهداء السوريين، الأمر الذي يكرّس جدلية العلاقة ما بين الوطني والقومي وببُعدٍ إنساني.
نجمتان على كتف الوطن
وفّرت الهيئة العامة لمدارس أبناء وبنات الشهداء كل الوسائل التعليمية والترفيهية والطبية لهم، ما شكّل مهاداً ضرورياً للتفوّق والإنجاز، وليس غريباً أن يصل خريجو مدارس أبناء الشهداء إلى أفضل المراكز والمناصب، وقد تابع السيد الرئيس بشار الأسد نهج الاهتمام بأبناء الشهداء، وضرورة أن يقوم المجتمع بمختلف فئاته بالاهتمام بهذه الفئة ورعايتها، هذا ما قالته الأم شهيرة فلوح أثناء تنكّب مهمتها الجليلة تلك من دون كلل أو ملل سادنةً لتفوّق أبنائها وإبداعهم، وهي من آلت على نفسها أن توفر محيطاً غنياً بمثيراته، ولعلّه الأكثر استثارةً لقدرات المتعلم وتحفيزه على العطاء والتفوّق، فهاجسها الكبير هو التركيز على أهمية العلم، لأنه الأساس في كل جوانب الحياة ولاسيما في ظل الحرب العدوانية على سورية، والتي تتطلب مواجهتها تعزيز العلم والمعرفة.
ما فوق عتبة الألم
لا يمكن الفصلُ بين حياة الأم شهيرة فلوح بوصفها المدير العام للهيئة العامة لمدارس أبناء وبنات الشهداء، وبين حيوات أبنائها الذين تبادلتْ معهم نمط الحياة بتوفيرها المناخ الملائم لهم لتكون مسيرة حياتهم متكاملةً بكل أبعادها الإنسانية والعلمية، ولعلّها تنظرُ بفخرٍ لا حدَّ له إلى وقائع كثيفة صاغت من خلالها ما هو أقرب إلى عقدٍ اجتماعي لتكون مؤسسة مدارس أبناء الشهداء بيت الأبناء وموئل أحلامهم وحافظ تطّلعاتهم إلى الغد، وهم الذين اجتازوا عتبة الألم، وعاشوا دورات حياتهم فتميزوا بما كرّسته لهم تقاليد مدرسة عريقة تكاملت أدوارها بأداء فريقٍ مؤمنٍ بنبل الأهداف، بل كما تقول السيدة شهيرة فلوح بقيم الشهادة بوصفها الحاكمة لمنظومات السلوك والتفكير، وكيف لا وهي التي فتحت غير أفقٍ أمام طلبتها في جميع مستوياتهم التعليمية، واستضافت الأولمبياد السوري دعماً وتشجيعاً وتكاملاً مع الحاجة إلى العلم والارتقاء بمفهوم الوطن في وعي طلابها/ أبنائها، ولكي يمثلوا سورية في الخارج وينالوا امتيازات المشاركة.
تلك السيرة الملونة
الناظر (اليوم) إلى مدرسة أبناء الشهداء وإيقاعها المضبوط سيقفُ على تلك الأيادي البيضاء التي ساهمت في إعمار النفوس، وكما تقول المربيّة شهيرة فلوح: نحن مدرسة أنموذجية بحاجة لتطوير إنساني قبل تطوير المكان، لكن ذلك لن يتأتى من دون إتباع الطرق الحديثة للتعليم، فكان لها أن أدخلت الإرشاد النفسي توعيةً وارتقاءً إلى جانب النهوض بما تتطلبه العملية التعليمية من الاستمرار بإيجاد حوافز النجاح والتمكين، حتى تبدو مؤسستها صيغةً وطنيةً راقيةً بالجهود الحثيثة لجعلها أنموذجاً فريداً، ليس على مستوى سورية والعالم العربي فحسب، بل على مستوى العالم.
يُذكر أن ثمّة معرضاً أُقيم بمناسبة الذكرى المئوية لعيد الشهداء شارك فيه الأطفال، يحاكي في لوحاته التشكيلية انتصارات الجيش العربي السوري على الإرهابيين، ويخلّد ذكرى الشهداء، واللافت فيه هو غلبة التفاؤل لدى المشاركين، وهي القيمة المضافة التي ميزت جهود العاملين في مدارس أبناء الشهداء، أي إنهم سعوا لتثمير الأمل، الأمل الذي أنعشَ النفوس وعبَرَ بسورية إلى الغد وهذا ما يكثّف تفاؤل المدير العام لمدارس أبناء الشهداء منذ اللحظة الأولى للحرب على سورية ورهانها الرابح على أن قدَر سورية أن تنتصر، الأمر الذي جعلها المتشبثة باستمرار مدارس أبناء الشهداء، ورؤيتها بأننا (اليوم) في حالة حرب مع الكيان الصهيوني العدواني، وما ستعنيه هذه الحرب من المواجهة وبذل الدم وارتقاء الشـــهداء، وبالتالـــي يكون المســـــوّغ لوجود إدارة مدارس أبناء الشهداء هو الوفاء لمن ردّوا وديعة الدم إلى سورية.. أبناء الشهداء في أيدٍ أمينة ومدارسهم منبع إشعاع وطني وعلمي.
سطور وعناوين
- شهيرة ميشيل فلوح إحدى ناشطات حقوق المرأة ورعاية الطفولة والأيتام وأبناء الشهداء في سورية، لم تُنجب أطفالاً، لكنها دائماً تقول إن الله عوّضها برعايتها مدارس أبناء الشهداء في سورية، معتبرةً أن سورية هي الأم الكبرى التي أنجبت وربَّت النساء اللواتي قدّمن الشهداء.
- اُنتخبت شهيرة فلوح لمجلس الشعب وعملت فيه من عام 1977 إلى عام 1981.
- شكّل اختيارها مهمة الإشراف على مدارس أبناء الشهداء منعطفاً كبيراً في حياتها لكي تكون مشرفةً على مدرسة بنات الشهداء عام 1981، فحملت على كاهلها عبء تأسيس مدرسة ذاعت شهرتها على مستوى العالم.
- السيدة جوليا داراني نائبة البطرك بمدرسة يوحنا الدمشقي إثر تكريمها كثّفت حياةَ المربيّة شهيرة بالقول: (فضائل الأم شهيرة اللا متناهية).
- ثمّة علاقة خاصة بين أبناء الشهداء والسيد الرئيس بشار الأسد وعقيلته، حيث الزيارات المفاجئة ذات الطابع العائلي، والتعامل معهم كالأب والأم.
- ترى السيدة فلوح أن تجربة أبناء الشهداء في سورية فريدة من نوعها، وهي البلد الوحيد الذي لديه كل تلك الصروح التربوية الحضارية، مدارس لم تكن محلية تختصُ باستقبال أولاد الشهداء السوريين فقط، بل كان لها دورٌ قومي باستقبال أبناء شهداء من دول عربية كالعراق والسودان وأرتيريا، واُستخدمت الكثير من الأساليب لإحياء الروح التنافسية بين الطلاب كفكرة الإيفاد السنوية لنحو 80 طالباً إلى ألمانيا وروسيا، وبشكل دوري.
- أطلقت المؤسسة العامة للسينما مشروعها السينمائي الجديد (يلا سينما) الذي أقامته بالتعاون مع الهيئة العامة لمدارس أبناء وبنات الشهداء.
- كُرمت من مؤسسات ثقافية ودينية، منها التكريم الذي أقامه البطريرك أغناطيوس الرابع هزيم بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، ومؤسسة عروق الياسمين.
- من المواقف المؤثّرة – إبان حرب لبنان- أن طالبةً أحبّت أن تتبرع بساعة يدها، هذا الموقف حمل السيدة شهيرة فلوح على القول: نحن قوميون ولسنا قطريين، وتوجّه كلمة محبة ووفاء: نحن معكم نحبكم ونقدّركم.
- سعت لتأسيس رابطة لخريجي مدارس أبناء وبنات الشهداء، وتعمل على إنجاح ذلك بكل ما في وسعها.
المصدر : مجلة جهينة