جهينة نيوز- خاص:
لو علم الطبيب الفرنسي جون بول ميرا رئيس قسم العناية المركزة بمستشفى "كوشان" في باريس حجم الارتدادات التي يمكن أن تحدثها تصريحاته العنصرية التي أطلقها قبل أيام على قناة "LCI" الفرنسية، واعتبر فيها القارة الإفريقية حقل تجارب لاكتشاف لقاحات تحدّ من تفشي وباء الـ"كورونا"، واقتراحه بـ"إمكانية تجريب اللقاح في إفريقيا على غرار تجارب سابقة"، لتأنى وتردد كثيراً، باعتقادنا، لأن ذلك سيعرض النظام الطبي في بلاده للانهيار التام والفوري.
قد نتناسى قليلاً الجرائم العنصرية المرتكبة بحق الأفارقة وسواهم من الأقليات اللاجئة في فرنسا وغيرها من بلدان الاتحاد الأوروبي، وفي الوقت نفسه قد نتفهم، ونتيجة الصورة المشوهة للإسلام التي تقدمها التنظيمات الإرهابية والعصابات التكفيرية كـ"القاعدة" و"داعش" و"جبهة النصرة"، حجم الكراهية والاضطهاد والقسوة التي يمارسها الأغلب الأعم من الفرنسيين ضد أكثر من خمسة ملايين مسلم يعيشون في فرنسا، واكتسبوا مع مرور السنوات جنسيتها وباتوا من مواطنيها، لكننا لن نقبل أبداً أن يطلق طبيب تصريحات عنصرية "مقززة" في هذا الوقت بالذات والعالم كله يواجه الوباء، ويسعى بما يملك من إمكانات إلى التوحد لإبطاء عداد أرقام الضحايا المتصاعد
إن هذه الاستفزازات العنصرية التي يوجّهها الطبيب الفرنسي جون بول ميرا وسواه، وسياسة الاستخفاف بالشعوب والأمم الأخرى التي بلغت أوجها وأسفرت عن أبشع وجوهها، لن تحلها حملة الانتقادات أو الإدانات والدعوات القضائية لمحاسبة هذا الطبيب المحسوب على النخبة الفكرية والعلمية والسياسية الفرنسية، كما أنها لن توقف أبداً أو تمنع لغة الاحتقار في النظر إلى باقي تلك الشعوب التي وردت في حديثه لقناة "LCI" وتساؤله حرفياً: "إذا استطعت أن أكون مستفزاً، ألا يجب إجراء هذه الدراسة في إفريقيا، حيث لا توجد أقنعة ولا علاج ولا إنعاش؟"، مضيفاً: "يشبه ذلك -إلى حد ما- ما تمّ القيام به في أماكن أخرى لبعض الدراسات حول الإيدز، حيث تم القيام بتجارب على بائعات الهوى، نحاول لأننا نعلم أنهن معرضات بشدة للخطر ولا يحمين أنفسهن"!!.
على أن الأبشع والأخطر من حديث جون بول ميرا، وتشبيهه الشعوب والأمم الأخرى ببائعات الهوى، هو ما ورد في البرنامج نفسه من ردّ للمدير العام للمعهد الوطني للصحة والأبحاث الطبية في فرنسا، كاميل لوكت، وتأييده لهذه الفرضية، وقوله: "أنتم على صواب، ونحن بصدد التفكير في إجراء بحث في إفريقيا لاعتماد نفس المقاربة مع لقاح BCG المطبق ضد السل".
وهنا لن نستغرب هذا التمادي إذا علمنا أن استطلاعاً للرأي العام أجرته وكالة الاتحاد الأوروبي للتسوق الأساسية عام 2019 كشف أن 92% من المسلمين في أوروبا يعانون صوراً عدة من التمييز العنصري، وأوضحت نتائج نقلتها وكالة الاسوشيتد برس الأمريكية أن 53% من المسلمين في أوروبا واجهوا التفرقة العنصرية عند محاولات العثور على سكن بسبب أسمائهم، وأن 39% عانوا التمييز بسبب مظهرهم الخارجي عند سعيهم للحصول على عمل، وأن البلدان التي تدّعي الدفاع عن الحرية والديمقراطية، أكد الاستطلاع نفسه أن 94% من النساء المسلمات المحجبات فيها تعرضن لاعتداءات ومضايقات لفظية وجسدية، وأن 22% منهن تعرضن لصور من الأعمال العدائية الهجومية في 15 دولة أوروبية، منها النمسا وبلجيكا وألمانيا والدنمارك وفرنسا وهولندا والسويد.
نعود إلى ما بدأنا به مقالنا لنقول: لو علم جون بول ميرا وغيره ممن يتبنون هذا الفكر العنصري الاستعماري البغيض، أن النظام الصحي في فرنسا برمته قائم على جهد عدد كبير من الأطباء غير الفرنسيين أو المهاجرين قسراً بسبب التقلبات السياسية والأحوال الاقتصادية في بلدانهم، لتردّد طويلاً في دعوته، وعرف حجمه كم سيكون صغيراً، لأن انسحاب هؤلاء الأطباء وعودتهم إلى بلدانهم يعني الانهيار الفوري والتام للنظام الصحي في بلاده.
في إحصائية لها في أيلول من عام 2018 كشفت صحيفة "لوموند" الفرنسية عن وجود أكثر من 15 ألف طبيب جزائري في فرنسا يشكلون 38% من مجموع الأطباء فيها بعد أن كانت نسبتهم 27% في 2007، كما أعلنت هيئة الأطباء في فرنسا أن المغاربة يمثلون ثاني جنسية للأطباء المهاجرين والمسجلين لديها وعددهم نحو 7000 طبيب، كما أن هناك أكثر من 1000 طبيب تونسي ونحو 500 طبيب من ليبيا، وجميعهم من تخصصات مختلفة في الجراحة والمعالجات الدقيقة والتطبيقات الدوائية المعقدة ويعدّون عماد كبرى المشافي الفرنسية.
والسؤال الموجّه هنا لــ جون بول ميرا وأمثاله: كيف ستكون الحال الطبية في فرنسا فيما لو قرر هؤلاء الأطباء الأفارقة، وبالتحديد "المغاربة"، رداً على تصريحاته العنصرية، الانسحاب والعودة إلى بلدانهم، ألم يكن الدرس في إيطاليا وإسبانيا والولايات المتحدة واضحاً وكافياً، غداة عجز الأنظمة الطبية وانهيارها الكلي في تلك البلدان، وأنه آن الأوان ليعترف العالم والعنصريون فيه بالتحديد، أن الشعوب والأمم التي يعتبرونها متخلفة، قد سبقتهم وقطعت أشواطاً في إبداعاتها الفكرية والعلمية؟!.
أخيراً.. وبعيداً عن أطباء إفريقيا وتصريحات جون بول ميرا، سنورد هذه الحادثة من سورية. ففي عام 2007 على هامش فعاليات أسبوع مارليان الثقافي الثاني الذي أقامته وزارة المغتربين ووزارة الثقافة بالتعاون مع محافظة حمص ومطرانية الروم الأرثوذكس، وخُصّص جزء منه لأسبوع طبي خيري ساهم في إنجازه ونجاحه مجموعة من الأطباء السوريين المغتربين، أكد الدكتور ميخائيل عرابي – خريج جامعة دمشق عام 1980 واختصاصي جراحة عصبية في جامعة باريس الخامسة ومشفى لاري بوازير- في حديث لصحيفة محلية أن عدد الأطباء السوريين في فرنسا يُقدّر بـ(6000) طبيب ويتواجدون في كافة المدن الفرنسية، ومنهم من يشغل مكانة علمية رفيعة في المراكز الجامعية المتخصصة.
إذن بماذا يفاخر بعض العنصريين الأوروبيين، وخاصة في فرنسا، وعن أي نظام صحي متطور، وعن إنجازات علمية وطبية يتحدثون؟.
11:59
19:25
18:22
11:14
12:23