جهينة نيوز-خاص
لا نقصد بـ "النظّارة السوداء" ذلك الفيلم المصري الذي لعبت فيه دور البطولة الفنانة "ناديا لطفي" في ستينات القرن الماضي، وإنما نقصد مرحلة عربية اشتُهر فيها أصحاب نظّارات سوداء بجرائد تغطي نصف نظّاراتهم، فيما تتيح لعينيّ "الشخص" متابعة شفاه المتحدثين –ربطاً مع قدراته السمعية- وهم يتبادلون أطراف الحديث في مطعم او مقهى أو حيٍّ شعبي، أو أي مكان آخر يجتمع فيه أكثر من شخص، أما هدف صاحب النظّارة السوداء المختبئ خلف جريدة، فهو جمع ما تيسّر من معلومات يذهب بها إلى مكلِّفيه المكلَّفين بضبط الأمن ومشاعر الناس وأحاسيسهم وأمانيهم وتطلعاتهم نحو مستقبل أفضل!
كان ذلك في حقبة ما قبل انتشار "الهاتف النقّال"، وقد أفلح من سمّاه نقّالاً، فهو ينقل الصور والأحاديث والرسائل، والأحاسيس والأماني والتطلعات، وكأنه زبون أحد مقاهي الستينات، ولكن بأرشيف إلكتروني يحفظ سيرته ويحتفظ بها ضمن محفوظات مشغِّلي ومشغّلات الهواتف المحمولة، وذلك لاستعادة ما يطرأ منه وقت الطوارئ، ومحاسبة صاحبه عمّا قد يبديه من مساوئ، فرأت حينذاك "دوائر مكافحة الجريمة الالكترونية" النور، لتبصر وترصد ما تصنّفه كل محظور، وبما أنه عصر التواصل، فليتواصل الجميع طالما أن الوصول إلى "داتا" المتواصلين لا يحتاج إلى ميزانية نظّارات سوداء وتكاليف أصحابها من مأكل ومشرب، وربما، مشروب في بارات المدينة.
إقرأوا جيداً!
تحت هذا العنوان نشرت إحدى صحف الوطن مؤخراً مقالاً تحذيرياً عنونته بـ "إقرأوا جيداً..الجرائم الإلكترونية بوجه أكثر صرامة…مشروع تعديل قانون مكافحة الجريمة المعلوماتية .. تشديد العقوبات ليصل بعضها إلى سبع سنوات حبس وغرامات مالية كبيرة"...
ولأننا لن نخوض الآن في تفاصيل مشروع التعديل، ذلك أن هذا المشروع مثير للكثير من النقد حتى قبل تعديله، فسنسلّط الأضواء على أخطر مواده "المعدلة" بحيث [تعاقب بالسجن المؤقت من ثلاث إلى خمس سنوات وبغرامة مالية من مليونين إلى أربعة ملايين ليرة كل من قام بإحدى وسائل تقانة المعلومات بنشر أخبار كاذبة على الشبكة من شأنها النيل من هيبة الدولة أو المساس بالوحدة الوطنية أو إثارة الرأي العام... كما تعاقب بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات وبغرامة مالية من 500 ألف إلى مليون ليرة، كل من قام بنشر أمر على الشبكة بإحدى وسائل تقانة المعلومات ينال من شرف موظف عام أو كرامته في معرض ممارسته لوظيفته، وتنص على أن للنائب العام أن يحرك الدعوى العامة أو يأمر بتحريكها في جرائم النيل من هيبة الدولة أو النيل من هيبة الموظف والجرائم التي تقع على الموظف أو على الدولة المنصوص عليها في هذا القانون وإن لم يقدم الموظف المتضرر شكوى أو ادعاء شخصياً...]...
أية حماية ينالها الموظف، وأي موظف ينال تلك الحماية؟
فإذا ما وضعنا على أعيننا نظارة أحد حكماء القانون، فإن أكثر ما يعكسه انكسار الضوء من عدساتها هو تكرار اسم "الموظف" وحضوره بقوة في "تعديل القانون"، والذي سيصبح فيما بعد "قانون التعديل"...!...فأية حماية ينالها "الموظف" في مواد هذا المشروع؟ بل أي "موظف" هذا الذي ينال كل تلك الحماية؟ فإذا كانوا يقصدون "الموظف المدير" فهو لا يحتاج إلى كل تلك الحماية والمؤازرة القانونية القضائية والعقابية، لا سيما وأن هذا "الموظف المدير" -وفي كثير من الحالات- تحميه قوانين الوظيفة العمومية وعلى رأسها قانون العاملين الموحد وتعديلاته، هذا إذا افترضنا جدلاً أن هيئة الرقابة والتفتيش وغيرها من بعض السلطات، لا تحميه حين يرتكب المخالفات...!...فلماذا يركّز المشرّع على حماية هؤلاء بالطرق العقابية المزعجة والمؤلمة؟ وفي حالة وقوع واقعة (اعتداء) إلكتروني على سمعة موظف، فهل تكون قد وقعت هكذا دون عسف واستفزاز وظلم مرتكب من قبل الموظف؟!...
رحلة الشكاوى من مهب الريح إلى الأثير
إن ما يجب أن يفهمه المشرّعون أن اعتلاء المظلومين والمغبونين لمنصات التواصل الالكتروني بغرض بث شكاواهم والتعبير عن آلامهم، ليس إلا بسبب طي تلك الشكاوى وجعلها في مهب ريح فساد الإدارات، حيث –في الكثير من الأحيان- لا وزير يسمع أو يقرأ أو يقرر، ولا مدير يتفهّم، ولا هيئة ذات اختصاص تنظر في المطلوب أو في حالة قصاص، مما يحوّل "الموظف" المنصور بقانون الجرائم الالكترونية، منتصراً على كل المصلحة العامة.
موظف ذو سوط وسيط!
ولعلها أجواء تعود أدراجها إلى الحقبة العصمليّة، حيث لا ينال رتبة الموظف إلا كل ذي سوطٍ طويلٍ، وسيطٍ يبلغ مقام الصدر الأعلى بقدرة صاحبه على إرضاء من هم في الأعالي، على حساب من هم في المراتب الدنيا من عموم الناس.
خاتمة
لا خصومة بين اثنين في تاريخ الخصومات، لا يفضُّها حَكَمٌ عادل، وإذا كانت تلك الخصومات تصل الآن إلى مواقع التواصل، فلأنها بنت زمانها، وليس لها من مقابل قديم –في حالة الاشتباك- سوى سحب الخناجر، فهل تغمد إدارة الجرائم الالكترونية خناجرها في أغمادها ويحكم مشرِّعوها بالعدل بين المتخاصمين، ولصالح المتألّم الفعلي؟
وختاماً نكرر سؤالنا: من هو الموظف الذي يحتاج إلى حماية قوانين الجرائم الالكترونية؟ أليس ذلك الموظف الذي يُتوقَّع أن يثير الرأي العام من جراء تصرفاته وإجراءاته باسم الوظيفية العمومية؟
22:06
22:15