جهينة نيوز-خاص
يقول الناس عادةً، لدى حدوث تغيّرات مفاجئة، "سبحان مغيّر الأحوال"...!...وبالفعل سبحان مغيّر الأحوال! فمنذ نشوء نظريات النقد والنقد البنّاء، ومبادئ الشفافية والعدالة والمحاسبة، كان سؤال "من أين لك هذا"، السؤال الأكثر تداولاً ومناقشةً بين الطامحين إلى رؤية مؤسسات نزيهة، يقودها مسؤولون شرفاء، فطرح أولئك الطامحون السؤال السابق كشعار يحقق معايير المسؤول النزيه نظيف اليدين.
ولكن –وخلال مسيرة سنوات طويلة- لم يجب أحد من المسؤولين على هذا السؤال، بل ثمة من كان يجيب عنهم احياناً، من هيئات رقابية وما شابه من الجهات التي بإمكانها العقاب والحساب وكشف ما اكتسبه مسؤول ما بطرق غير شرعية ...
ورغم كل ذلك، بقي هذا السؤال –مع الإجابة عليه- حلماً راود ويراود كل مواطن ضاق ذرعاً من سيرة مسؤولين اختلسوا ونهبوا دون رقيب أو محاسبة، وتركوا أثراً سيئاً -ولو صغيراً – على عدالة توزيع الثروة الوطنية على جميع "مستحقيها".
ولكثرة "هذا" و"ذاك" و"تلك" وغيرها من الممتلكات اللاقانونية أو الشرعية لبعض المسؤولين، وشيوع ذلك "الامتلاك" كأمر طبيعي واعتيادي للكثير من المسؤولين، دون حساب، باتت حدّة سؤال "من أين لك هذا" تتراجع وتخف، معبّرةً عن يأس المواطنين لدرجة أن معظمهم أصبح يشرّع –باللاشعور- لبعض المسؤولين ما يمتلكونه دون وجه حق.
خطأ الانسحاب إلى ما "خلف خطوط" الأزمة المعيشية
واليوم مع تصاعد حمّى الدعم الحكومي والحديث اليومي عن إعادة هيكلة هذا الدعم، في ضوء استبعاد مئات الآلاف من المواطنين منه، يبدو أن سؤال "من أين لك هذا" بات ينطبق على المواطن لا على المسؤول، وذلك في مشهد سريالي مذهل وفائق الغرابة والانفصام عن الواقع.
فبدلاً من أن يكرّس الكوادر الحكوميون وقتهم وجهدهم لخلق مبادرات وحلول بديلة لنتائج الحصار والعقوبات والحرب الارهابية، وبدلاً من التقدّم على جبهات الأزمة برجولة واقتدار، وفرض أمر واقع سوري على الأعداء والأصدقاء معاً، فضّلوا الانسحاب إلى ما "خلف خطوط" الأزمة المعيشية، والتموقع وراء احتياجات البلاد والمواطنين، ولجأوا إلى الحلول المرضوضة المريضة، والتي لا تتناسب مطلقاً مع وجود مبانٍ حكومية بكامل أجهزتها ورونقها وفخامتها، وذلك تبعاً لبعض مشاهد الأزمة المعيشية الذي يشبه إلى حد ما مشاهد الحروب السِجال، والتي لا تحظى فيها حكومة بمكاتب آمنة لإدارة شؤون البلاد.
ماذا فعلت البطاقة الذكية؟
ووصل الحال في النهاية إلى موضوع الدعم عبر البطاقة الذكية، الذي لم يسر في يوم من الأيام سيراً طبيعياً، بل إن ما أُرخ بخصوصه يتلخص في السخرية واللطم على الرأس، إلى أن حلّت غرّة شهر شباط 2022، فتهاطلت رسائل الاستبعاد من الدعم على هواتف ما يقارب ستمئة ألف مواطن، احتجّ معظمهم، بينما برّر الحكوميون ذلك بسوء البيانات المُدخلة إلى حواسب "الذكية"، ومعها حواسب "التجارة الداخلية" و"النقل" و"الاتصالات" و"دفن الأموات" و"الهجرة والجوازات" وغرف "التجارة" و"الصناعة" و"النفوس"... ولكي لا ننسى أيضاً، "المصالح العقارية" و"الطابو"... وماذا بعد؟!... ألم يخطر على بال الحكوميين أن ربط المواطنين بشبكة معاملات وتعاملات طارئة جديدة سيسبّب الفوضى؟...ومن أجل ماذا تلك الفوضى؟...أمن أجل اكتساب ميزة "الحد الأدنى" من غلاء سلع استهلاكية معدودة على الأصابع، ولا أثر كبيراً لها في نجدة المواطن المنكوب؟...هل يظن الحكوميون أنهم أقنعوا المواطن بأن "الدعم" المحدود هذا، هو الحل لمشكلة المعيشة والافلاس والحصار والعقوبات؟ بالطبع لا...
الحكومة للمواطن: من أين لك هذا؟!
ومع الأسف فقد بات على المواطن –كي يحصل على دعم محدود- أن يجيب على سؤال "من أين لك هذا"...أي هذا البيت والسيارة العتيقة والسجل التجاري المهترئ ودكان معيشة ما بعد الدوام الوظيفي و و و...إلخ من "الممتلكات" البسيطة التي تعد آخر ما يربط أولئك المواطنين معيشياً ببلدهم، بعد أن خسر معظمهم في الأزمة بيوتهم ومصانعهم الصغيرة ومشاغلهم ومصالحهم، بل وسياراتهم التي ما زالت ماثلة -مع أحصنتها العجوزة- في سجلات النقل...!...
أين أضابير خراب البيوت؟
ولأن مسؤولاً من مجالس المحافظات لم يتصل بعد بمواطن ملأ إضبارة "خراب بيته" أو مصنعه في الأزمة، بغية الترميم أو إعادة البناء أو التعويض، فعلى الحكومة ألا تسأل بتاتاً عمّن يستحق الدعم أو لا يستحقه، لأن الحالة قدرية، وقابلة ليحل فيها الرأس مكان العقب بلحظة، حيث ثمة من أفلس وكان سيد رأس مال، وقد يحدث العكس، وثمة أيضاً من أصبح مرابطاً على خط الفقر وواقفاً على حافّة الجوع، رغم أن بياناته القديمة في حواسب الحكومة تقول غير ذلك.
دعوة لإعادة عقارب الساعة إلى ما قبل إدراج البطاقة الذكية
وختاماً فهي دعوة لإعادة عقارب الساعة إلى ما قبل إدراج البطاقة الذكية، وتكليف الجهابذة من المحاسبين القانونيين بحساب الوفورات التي ستنجم عن إلغاء نظام البطاقة الذكية، من حيث توفير مصاريف شركة "تكامل" وأرباحها، وضبط نفقات إجراءات الدعم ورفع الدعم وتصحيح الأخطاء، ووضع حد لتجارة المواد المدعومة في السوق السوداء، من خبز ورز وسكر ومحروقات وغيرها، والتي تشهد كثافة منقطعة النظير، عبر نوافذ وبسطات يفوق عددها نوافذ "التجارة الداخلية"، وبواسطة بائعين يزيد عددهم على عدد موظفي تلك الوزارة، هذا فضلاً عمّا يتم توزيعه في مؤسسات حكومية عدة من خبز بالسعر المدعوم لموظفين، دون تمرير بطاقاتهم الذكية على أجهزة "تكامل"، الأمر الذي يتيح للموظف الحصول على خبزه مرتين، وقد يتيح لعملية بيع الفائض من الخبز في السوق السوداء... فهل رصد المعنيون ذلك؟ وهل يدركون أن إلغاء ذلك سيعيد الخبز إلى سعره الطبيعي في نوافذه الأصلية، أي الأفران؟!
وفي حال عدم تغطية الوفورات الناجمة عن عودة عقارب الساعة إلى ما قبل "البطاقة الذكية"، للأسعار المدعومة الآن، فإن عمل الكوادر الحكوميين يجب أن يتركز على سد العجز بشتّى الطرق، لأن الفرق –إن وُجد- لن يكون كبيراً، وذلك تداركاً للحالة المؤسفة التي نشهدها الآن، مع الاشارة إلى أن عدم اللجوء إلى ذلك الحل، يعني أن وراء الأكمة ما وراءها وأن "تراجيديا" الدعم كلها وُضعت لفائدة شركات وفئات معينة.