جهينة- وائل حفيان:
في سورية الكثير من المشافي العامة، منها ما يتبع لوزارة التعليم العالي والآخر لوزارة الصحة، وجميعها تقدّم معظم خدماتها من معاينة وعلاج وطبابة بالمجان أو بأجور رمزية، ولكنها لا تكمل ما تقوم به من خدمات تتبع للناحية الطبية والصحية، وهذه المرة الموضوع الذي تابعناه يُعنى بالإطعام داخل المشافي العامة، حيث يلحظ أي زائر للمشافي العامة أن الطعام يوزع على المرضى بطريقة مستهجنة وغير لائقة، مثلاً يدور العامل الموكل إليه توزيع الطعام في المشفى وينادي «مين بدّو أكل»، وعلى المريض أو مرافقه أن يخرج ليأخذ الطعام المخصص له بأوانٍ معدنية مقسّمة لكل قسم نوع من الطعام..
«جهينة» أرادت تسليط الضوء على جانب التغذية والإطعام في المشافي العامة، فهو سبب رئيسي ومهم للتقصّي الذي قامت به، وتم طرح العديد من الأسئلة وإشارات الاستفهام مثل: هل المشافي العامة كلها تقدم وجبات منتظمة للمرضى؟ وهل ما تقدمه مطابخ المشافي من وجبات هو مفيد وكامل الغذاء؟ ماذا عن البيئة التي يتم فيها إعداد الوجبات، ونوعية الأطباق التي يقدم فيها الطعام ودرجة جودتها، وهل هي متلائمة مع نظام المشافي؟ وهل هناك لجان تغذية وكوادر مختصة بالإطعام؟ ولذلك حاولنا في هذا التحقيق تقصّي موضوع الإطعام في المشافي العامة بمدينة دمشق بعد ورود العديد من الشكاوى إلى بريد «جهينة» من المرضى في جميع المحافظات تتحدث عن الطعام وكيفية توزيعه ونظافته، ومن بين كل هذه الشكاوى كان هناك مطلب محق، وهو عدم التزام المشافي بالحميات التي ينصحُ بها الأطباء مرضاهم، وعدم وجود اختصاصيين بالطبخ والتوزيع.
معوقات الدخول؟
بدايةً واجهتنا العديد من الصعوبات لدخول هذه المشافي، علماً أن إدارة مجلة «جهينة» توجهت بكتب وخاطبت بها وزارتي التعليم العالي والصحة، لكن ما الذي حصل؟! حيث استلمت وزارة الصحة الكتاب ووعدت بالموافقة على زيارة مشافيها للاطلاع على تجارب الإطعام فيها، ولكن «تيتي تيتي متل ما رحتي اجيتي»، فالعديد من الاتصالات مع مدير المكتب الصحفي خلّفت وعوداً من دون أفعال أو ردوداً ترشدنا لاستكمال التحقيق، إلا إذا كان هناك ما تريد وزارة الصحة أن تخفيه عن الرأي العام. أما وزارة التعليم العالي فليست أفضل من الصحة، وبعد أكثر من ثلاثة كتب تم توجيهها إلى الوزارة رُدّت إلينا بحجة إرسالها عن طريق الفاكس وتارةً لا يوجد اسم رئيس التحرير، وحقيقةً لا نعرف لماذا يضع الوزير شروطاً ليست مستحيلة ولكنها مضيعة للوقت، ومن شأنها أن تسبب حالة ملل للصحفي وحرف هدفه من التحقيق الذي يعدّه، وبعد عناء استمر ثلاثة أشهر سُمح لنا بزيارة مشافي «التعليم العالي»!.
لا وجود للحمية!
فاتنة. م (54 عاماً) من سكان دمشق قالت: دخلت مشفى الأسد الجامعي، وأنا مريضة سكر وضغط، ويجب أن أمتنع عن البروتين والملح وبعض الأكل، وأثناء مكوثي في المشفى الذي استغرق ثلاثة أيام وأنا أرى الطعام جيداً ولكنه لا يناسب الحمية التي أتبعها، ما اضطرني لشرائه من خارج المشفى أو إحضاره من المنزل أثناء زيارة أولادي.
بدورها أم محمد (45 عاماً) قالت: إن طريقة توزيع الطعام في المشافي العامة طريقة قديمة ولا تراعي أدنى الشروط الواجب توفرها في العمل الطبي، علماً أنني دخلت مشافي خارج البلد وكانوا يهتمون بالطعام وتوزيعه بشكل جيد.
معاملة سيئة
(ع. م.) قال: اضطررت لدخول مشفى الأسد الجامعي في اللاذقية لإجراء عمل جراحي، وطوال المدة التي بقيت فيها في المشفى لم آكل وجبةً واحدةً فيه، لأن الطعام الذي يوزع على المرضى سيئ ولا يكفي لشخص، ويتم تقديم الوجبات بطريقة غير لائقة، إضافة إلى سوء معاملة كوادر الإطعام.
67 ليرة للوجبة الواحدة!
وخلال زيارتنا مشفى الأسد الجامعي في دمشق حدّثنا غدير ناصر مدير الخدمات في المشفى عن الإطعام بشكل عام والمعوقات والصعوبات التي تواجه عمل كوادر الإطعام، قائلاً: نظام الجعالة في المشفى خصّص 67 ليرة سورية للعاملين وهذا المبلغ لا يكفي، فنحن نوزع على وجبة الفطور بيضة و50 غراماً مربى وجبنة، أما وجبة الغداء فهي تتنوع بين اللحم الأبيض أو الأحمر ورز أو كبسة أو برغل ولبن، والعشاء متبّل وسلطة شوربة.
وعن شراء المواد الخاصة بالإطعام قال ناصر: نحن نستجرّ المواد التي تدخل في الإطعام عن طريق المؤسسة العامة للتجارة الداخلية بكتب رسمية من المشفى ووزارة المالية من دون عقود، مشيراً إلى أن المشفى يدفع سنوياً للإطعام فقط 250 مليون ليرة سورية، وتم تخصيص مبلغ 250 ليرة للوجبة اليومية.
خطأ فادح
بيّن ناصر أن الإطعام لا يقتصر على المرضى الذين يدخلون إلى المشفى سواء كانوا للدرس أو الأقسام الخاصة فقط، بل للمرضى والأطباء المقيمين المتعاقدين مع وزارة التعليم والأطباء الذين يقومون بالتدريب «الستاجات» وبعض العاملين والمناوبين الذين تتجاوز ساعات دوامهم 18 ساعة عمل يومياً.
وبالنسبة لوجود لجان مشرفة على الطعام وتوزيعه، أكد ناصر أنه كانت هناك لجنة من طلاب الدراسات العليا لكنها توقفت نتيجة خطأ أدى إلى مشكلات عدة، منها حالات تسمم كانت تودي بحياة أطباء مقيمين في المشفى نتيجة لإهمال أعضاء اللجنة وتركهم الفروج خارج البرادات ما أدى إلى تسمم بعض الأطباء.
كما بيّن ناصر أن هناك رئيس شعبة التغذية وهو المسؤول بشكل كامل عن الإطعام داخل المشفى بالتنسيق مع ممثلين عن طلاب الدراسات العليا، ولكن لا أحد يلتزم منهم، وضمن النظام لا توجد لجنة بل هناك رئيس شعبة التغذية فقط.
معدّات قديمة
وبالنسبة للتجهيزات التي تتوفر ضمن المطبخ والمعدّات الموجودة فيه، قال ناصر: إن المسؤول عن التجهيزات في المطبخ هو القسم الهندسي، ونحن مسؤولون خدمياً، كما أن المطبخ موجود منذ عام 1988 وبحاجة إلى استبدال وتحديث كامل، مبيناً أنه تم رفع كُتب تطالب بتوسيع المطبخ وكان الرد من وزارة المالية بالتريث لأنه لا توجد ميزانية، وأن المشكلات التي تنتج أثناء إعداد الطعام هي بسبب قدِم المطبخ مثل الطناجر والأواني غير المجهزة 100%، وقد يكون الرز غير مطبوخ بشكل جيد.
نقص الكوادر المختصة
أشار ناصر إلى نقص العمالة وعدم توفر كوادر مختصة تستطيع العمل بشكل جيد وحضاري، علماً أن هناك الكثير من الطلاب الذين يتخرّجون سنوياً من المعاهد الفندقية وكليات السياحة، يجيدون العمل في تحضير الطعام وتوزيعه، مشيراً إلى المسابقة الأخيرة التي أعلن عنها المشفى لرفد المطبخ بكوادر جديدة ومختصة ولكن لم يتقدم أحد لهذا العمل.
وبشأن التعاقد مع شركات خاصة تجيد التعامل مع المطبخ، قال ناصر: إن ميزانية الطعام سنوياً 250 مليون ليرة وهي مخصصة لمليون وجبة سنوياً، وهذا المبلغ لا يكفي للتعاقد مع شركة خاصة تقوم بأعمال إعداد الطعام وتوزيعه، أضف إلى ذلك أن الكوادر المكلفة بالإطعام غير متخصصة بهذا الجانب.
مشاهدات على الواقع
«جهينة» وصلت إلى قاعة تجهيز الطعام تزامناً مع موعد الغداء وتتبعت خطوات إعداده وتقديمه للمرضى، كما رصدت ردود الأفعال حول خدمات المطعم وجودة الوجبات التي يستفيد منها المريض، حيث أكد المهندس مجد، مدير وحدة التغذية أنه في كل جناح يتم إنزال بيان بإطعام مرضى من رئيسة الجناح وبتوقيعها يتضمن رقم الغرفة وعدد الأسرّة وعدد المرضى، وقد يكون هناك في الجناح غرفة خاصة تتضمن طعاماً للمريض والمرافق، حيث يتم توزيع عدد الوجبات النظامية ويقوم أحد العمال بتوزيعها.
وحول نظافة المطبخ والأواني قال المهندس مجد: إن النظافة من الأولويات وتبدأ قبل الشروع بإعداد الطعام، إضافة إلى توجيه الطباخين دائماً بالنظافة الكاملة وارتداء الزي المخصص للطبخ وتقديم الطعام بصحون (ستانلس).
وبعد أن غادرنا قسم الوحدة الغذائية توجهنا إلى غرف المرضى للوقوف على رأيهم حول ما يقدم لهم من وجبات، فقال بعضهم إن الطعام جيد ضمن المشفى، ولكن آخرين التقيناهم في الحديقة وفي مشاف أخرى وبمجرد علمهم بمهمتنا أبدوا استياءهم من الوجبات التي تقدم لهم وتحدّث بعضهم عن البيئة غير الموائمة لصناعة الطعام، مؤكدين أن أغلبهم لا يتناول وجبة الطعام المقدمة في المشفى بل يقذفون بها من الصحون إلى سلة النفايات مباشرة، فالوجبات غير مستساغة لديهم حتى إن كانت بمواصفات صحية إلا أنهم لا يضمنون طريقة إعدادها، كما انتقد معظم المرضى طريقة تقديم الوجبات.
تدني بيئة المطابخ
أحد العاملين في القطاع الصحي فضّل حجب اسمه انتقد مستوى الخدمات الغذائية التي تقدم للمرضى في المشافي، مشيراً إلى تشابه الأصناف المكونة للوجبات، في وقت كان يجب فيه أن تكون تلك الوجبات وفق الوصفة التي يحتاجها المريض، مشيراً إلى تدني بيئة المطابخ والأدوات من صحون وأوانٍ غير مناسبة لهذه المرحلة وخصوصاً بعد انتشار الأمراض المعدية، مضيفاً: إن تردّي الوضع في مطابخ بعض المشافي وقدِم المعدّات بحاجة إلى تحديث وتبديل سريع وذلك من خلال استخدام الصحون والكؤوس ذات الاستعمال لمرة واحدة من أجل ضمان عدم انتقال أي مرض.
وأوضح أنه في بعض المشافي الخاصة مثلاً تم ابتكار طريقة تمثلت بعبوة من الفلّين مقسمة في الداخل إلى ثلاثة أقسام يوضع فيها الطعام: قسم للناشف مخصص للرز أو البرغل وقسم للسائل وقسم للفواكه مع وجود ملعقة بلاستيكية، ثم تُغلق العبوة وتُوزع على المرضى في الغرف، وبذلك يحصل المريض على طعامه بشكل حضاري ولائق، وبعد أن ينتهي منها توضع العبوة في سلة المهملات.
أين أخصائيو التغذية؟
رئيس قسم الكلية في مشفى الأسد الجامعي الدكتور قصي حسن، قال: إن الإطعام في المشافي يحتاج إلى إعادة نظر من ناحية اتباع الحميات اللازمة ومراعاة المرضى كلّ حسب وضعه الصحي، مشيراً إلى أن مشافي القطاع العام لا يوجد فيها أخصائيو تغذية يقومون بهذه المهمة.
من جانبها قالت الدكتورة سحر العطار أخصائية التغذية في كلية الزراعة: يجب أن يكون اختصاص التغذية موجوداً في المشافي لمعرفة ما يحتاجه المريض من حميات، مضيفة: من الضروري وجود خبير تغذية في المشافي لمراقبة إعداد الطعام وتقديم استشارات للمرضى، موضحةً أن اختصاص التغذية غير موجود في الجامعات السورية، لأن هذا الاختصاص يجب أن يجمع بين الطب والتغذية، مشيرة إلى أن جميع مشافينا العامة لا تملك هذا الاختصاص، وأغلب أطباء التغذية في البلد يختصون في دول أخرى، مطالبةً بإيجاد حل لهذه المشكلة من خلال إنشاء كلية أو قسم يخرّج اختصاصيي تغذية ويكون الخريج مطّلعاً وملمّاً بالناحية الطبية والتغذوية، ويعرف فوائد المواد والأغذية بشكل عام، إضافة إلى النواحي الطبية ومعرفة المشكلات التي يتعرض لها المريض، خاصة من ناحية الحميات، مبينة أن خبير التغذية قد يعطي معلومات تشكل خطراً على صحة المريض.
وأشارت العطار إلى أنه يجب أن يكون هناك أطباء مختصون بالتغذية والطب معاً، يقومون بدراسة إضبارة كل مريض على حدة، ومعرفة ما هو مسموح وما هو ممنوع من الطعام خلال فترة مكوثه في المشفى، موضحةً أن أغلب المشافي تقدم الطعام نفسه لكل المرضى، منه النباتي والحيواني المسلوق وبالتالي فهو لا يحدث ضرراً كبيراً عند المريض، مؤكدةً أن وجود طبيب اختصاصي تغذية في المشافي هو طلب محق ويجب العمل عليه لكي يكون جديراً بهذا العمل وليس متطفلاً، وأن يكون ملمّاً بالمواد الغذائية وفوائدها على صحة المريض.
أخيراً..
من خلال ما لاحظناه خلال زيارتنا إلى المشافي بقي أن نقول إن هناك نقصاً في الكوادر المختصة التي تقوم بمهامها بطريقة حضارية في توزيع الطعام وإعداده، ولاسيما أن هناك معاهد وفروعاً جامعية تُعنى بهذه الخدمات وتخرّج كوادر قادرة على خدمة المشافي بهذا الصدد إذا ألزمت الحكومة الخريجين بخدمة المشافي والفنادق العامة لفترة زمنية معينة، وبذلك تضمن سير عملية الإطعام والخدمات ضمن المشافي على أيدي اختصاصيين بدل الاعتماد على موظفين ليست لديهم خبرة بالإطعام، كما ينبغي على الجهات المعنية بهذا الأمر زيادة قيمة الجعالة في المشافي العامة وتطوير البنية التحتية للمطابخ ولاسيما بعد مرور أعوام كثيرة على إنشائها.
الأغذية والوجبات التي تقدم للمرضى في المشافي العامة ليست جيدة، ففي دراسة حديثة قامت بها مؤسسة بريطانية اتضح أن الطعام المقدّم للمرضى في المشافي الحكومية بانكلترا أكثر ضرراً وأقلّ جودة من الطعام المقدّم في مطاعم الوجبات السريعة، وقال الباحثون: إن 75% من الطعام المقدّم في المشافي يحوي كميات أكبر من الملح والدسم بنسبة 60%، كما تبيّن أن وجبة الرز بالكاري والمعكرونة التي تقدم في المشافي البريطانية تحتوي في بعض الأحيان على نسبة أكبر من الدهون، ونصح مسؤول في مؤسسة (ساستين) المرضى بزيارة مطاعم الوجبات السريعة بدلاً من تناول الطعام المقدم في المستشفى والذي لا وجود لمعايير تحدد نوعيته. وضمن إطار الدراسة تم تقصّي نوعية الغذاء في 25 شركة تقدم الطعام للمرضى في المشافي البريطانية، وطالب ناشطون الحكومة البريطانية بوضع معايير غذائية لا لشبكات مطاعم الوجبات السريعة فحسب، بل للمشافي أيضاً.. هذه حال الوجبات التي تقدم للمرضى في بريطانيا فكيف حالها في بلادنا التي يعاني فيها القطاع الصحي من تجاوزات كثيرة ومتنوعة الأشكال؟!
المصدر : مجلة جهينة