جهينة نيوز- خاص
من المثير أن يتزامن الحديث عن مشروع الإصلاح الإداري مع الحديث الجديد والمتجدد عن الشهادات الجامعية المزوّرة وخاصةً شهادات الدكتوراة التي تتصف منذ مدة بأنها سلاح ذو حدّين...فهي حين تكون نظامية ومحققة للشروط العلمية والقانونية الكاملة حسب قوانين البعثات العلمية ومجلس التعليم العالي، فقد تودي بصاحبها إلى التهلكة الوظيفية ضمن بيئة إدارية لا تعرف المنافسة الشريفة، وذلك لأغراض التسلّق والحصول على ما لا يملكه بعض ذوي الرُّتب الوظيفية والسلطوية –غير العلمية- من مزايا السيطرة داخل الوظيفة، وبالتالي فسياسة هؤلاء تتلخص في بناء السدود الحكومية في وجوه أصحاب الشهادات العليا النظامية واضطهادهم وتشويه سمعتهم بكل الأساليب التي أتقنها هؤلاء المنافسون خلال فترة صعودهم التدريجي على السلّم الوظيفي.
ومع انتشار موضة "الدكترة" غير النظامية من خلال الحصول على شهادات دكتوراة مزورة بمقابل مالي، أو شهادات رخيصة على شكل هدايا من دول مشهورة في هذا المجال كباكستان وكازاخستان ورومانيا، يلجأ بعض الطامحين بمناصب ومراتب عليا في الدولة إلى هذه الوسائل اختصاراً للمدة الطويلة التي يقضيها الطالب النظامي للحصول على أعلى شهادة علمية...وتكمن المشكلة الأكبر في الثقة الكبيرة بالنفس لأولئك الحاصلين على تلك الشهادات المخالفة، فيصدقون أنفسهم في كل مناسبة ويشرعون في تقمُّص شخصية المختص، لكن الأهم بالنسبة إليهم هو شغل المنصب الذي اضطرهم لشراء شهادة أو تسوّلها من جامعات الدرجة الخامسة في العالم...
ليس أمين فرع ريف دمشق المعزول الأول في هذا المجال ولا الأخير، بل سبقه إلى تلك الحيلة أشخاص اعتباريون كثيرون شغلوا مناصب علمية وإدارية فائقة الحساسية مثل وزير، معاون وزير، أستاذ جامعي ورئيس لجنة علمية معينة لمدة تقترب من عقدين، مدير عام، معاون مدير عام...إلخ...هذا فضلاً عن أولئك الذين لا يحملون الشهادات المطلوبة ويوضعون في مسؤوليات علمية تتطلب شهادات عليا تخصصية، ونعتقد أن رئاسة مجلس الوزراء قد أزاحت عن كاهل هؤلاء كل الإحراج العام الفائت بإصدارها لقرار يجيز لمعاون الوزير أو المدير العام وغير ذلك من المسؤوليات الكبرى، أن يشغل تلك المناصب بموجب إجازة جامعية لا أكثر...ولعل ذلك يذكّرنا بأربعينات القرن الماضي حين كان الحاصل على الشهادة الإعدادية سيد المتعلمين في بعض المناطق، فما بالنا اليوم وشهادات الدكتوراة النظامية تملأ البلد منذ عام 1970 حيث شهد موضوع إيفاد الطلبة السوريين إلى الخارج للحصول على شهادات عليا تطوراً هائلاً.
وبكل الأحوال فالمنظومة الإدارية المكلفة بإدارة مؤسسات الدولة –وتقع في مجلس الوزراء والهيئة المركزية للرقابة والتفتيش-هي المنظومة المسؤولة عن وجود شهادات مزورة ضمن المؤسسات لسبب بسيط وهو عدم إحالة الشهادات التي يتقدم بها الموظفون في المؤسسات إلى الجهات المانحة لتلك الشهادات على اختلاف درجاتها، فجميعنا يعلم أن التأكّد من صحة شهادة البكالوريا على سبيل المثال لا يتطلب أكثر من مراسلة بسيطة مع إدارة الامتحانات في مديرية التربية لكل محافظة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الإجازة الجامعية التي توجد تفاصيلها في قسم شؤون الطلاب والامتحانات في رئاسة كل جامعة، أما شهادات الدكتوراة النظامية، فلها مرجعية إدارية وعلمية معروفة وهي مجلس التعليم العالي في وزارة التعليم، ولن يقوم موظف المجلس بجهد كبير لمعرفة أن صاحب الشهادة نظامي او لص، وخاصة بالنسبة إلى الشهادات الأجنبية الأكثر رواجاً بين المحتالين، فشهادة الدكتوراة الأجنبية او العربية أو المحلية لا يمكن تفعيلها في مؤسسات الدولة دون الحصول على تعديل وظيفي وعلمي في مجلس التعليم العالي، الذي يمنح المتقدم بياناً بمطابقة شهادته لمواصفات التعليم العالي والشهادات التي تمنحها جامعات القطر، إذا حقق الشروط القانونية والعلمية المطلوبة، وهي لائحة كبيرة جداً من الثبوتيات.
لذا فكيف يطمئن بعض المخالفين في مؤسسات الدولة رغم وجود هذا الشرط الوظيفي...؟!
إن أول من يجب مساءلته في حالة وجود مخالفات من هذا النوع هو "رئيس الذاتية" في كل دائرة بموجب احتفاظه بأضابير العاملين، وبالطبع فحين يتواطأ رئيس الذاتية مع المتورط يجب أن نعلم أن المسؤول الأعلى في الدائرة متواطئ أيضاً، وهنا فلص الشهادة العليا لا يشتري شهادته من المزوّر فحسب، بل من كل من يعرف ويجب أن يعرف.
بالطبع في سنوات الأزمة تفاقم هذا الموضوع بما يمكن إدراجه ضمن المؤامرة على البلد، وبعض الأمثلة الإعلامية التي تتحدث عن "شيوخ كار" في هذا المجال أشارت إلى تواري بعض المتورطين عن الأنظار الآن، وبالعودة إلى سيرة عمل أولئك وشهرتهم خلال السنوات الماضية، فهي تؤكد فشل القانونيين في مجلس الوزراء في إدارة أبسط ملف في مؤسسات الدولة، فأحد الحاملين لشهادة دكتوراة مزوّرة –وهو خرّيج إعدادية- كان يعمل بصفة مستشار لدى رئاسة مجلس الوزراء وحاصل من هذا المجلس على بطاقة تعريف بذلك، مما أتاح له الظهور على كل القنوات التلفزيونية المرخصة في البلاد كخبير ومحلل اقتصادي وسياسي!...كما أُتيح له مؤخراً التدريس في جامعة خاصة، ربما لأنه لم يستمرئ التدريس في جامعة حكومية!...وفضلاً عن ذلك فقوة شهادته الأجنبية المزورة ومتانة غطائها –والتي كان يلتقط معها صور السلفي دائماً-أتاحت له الاطلاع على مراسلات بعض الوزراء من فوق مكاتبهم...
وخلاصة القول، فإن هذا الموضوع من المواضيع الخطيرة، ولنقل إنه على الحكومة أن تنصف أصحاب الشهادات الحقيقية أولاً، ولن يجد بعد ذلك لصوص الشهادات مكاناً لهم في مؤسسات الدولة، وخاصة العلمية منها، والتي وصل بعضها -في أحدث وآخر الأمثلة- إلى حالة وجود عدة مديريات مركزية ودوائر تخصصية في الآثار والمتاحف يديرها عاملون غير متخصصين أو لا يحملون الشهادات العليا المطلوبة.
22:32
16:09
20:56
03:27
22:01