جهينة- وائل حفيان:
كل عابر لشوارع دمشق لا بد أن يلحظ الكثير من السيارات التي عفا عليها الزمن، وحين يدقق بلوحاتها يفاجأ بأن معظمها سيارات حكومية مازالت تمخرُ عباب شوارعنا كلوحات سريالية إلى جانب السيارات الحديثة نسبياً، رغم أن سورية عانت خلال سنوات الأزمة من غياب السيارات الحديثة، ويعود السبب إلى الإجراءات العقابية الجائرة التي فُرضت عليها، أو الوضع الاقتصادي الذي تسبّبت به الأزمة، ونتجت هذه الظاهرة عن الآلية البيروقراطية في استثمار الآليات الحكومية وتحديثها، على الرغم من التأكيدات المتكررة من رئاسة مجلس الوزراء والجهات المسؤولة على ضرورة تحديث هذا الأسطول من الآليات ولكن من دون جدوى.. هذه المشاهدات دفعتنا لنتساءل ونطرح العديد من علامات الاستفهام حول استخدام المركبات الحكومية المتهالكة، وعن مصاريف الصيانة التي ترهق كاهل المؤسسات من دون أن يلوح في الأفق أي أمل بتجديدها أو تنسيقها، وخلال دردشات لـ»جهينة» مع عدد من مستخدمي هذه السيارات من الموظفين الحكوميين تأكدت لنا معاناة هؤلاء من كثرة أعطالها وبالتالي مصاريفها الزائدة، رغم القوانين والتعليمات التي تحدّد سقوف إصلاح واستثمار هذه السيارات بمبالغ لم تعد تفي بالغرض.
سيارات مهترئة «بدها دفشة»
(علي) سائق سيارة خدمة (بيك آب) تعود سنة صنعها إلى عام 1976 وهي أشبه «بالطنبر»، فالهيكل مهترئ تماماً وأضواؤها الخلفية والأمامية معظمها تالف، وهذه أمور تؤثر في جاهزية السيارة ولكي أتفادى الحوادث التي قد تسببها، ناهيك عن الوضع الفني السيئ لها، يقول علي: كل أسبوع تقريباً تتعطل السيارة في
شوارع دمشق وأظل بانتظار ورشة الصيانة عدة ساعات لكي أستطيع إكمال عملي أو الوصول إلى المكان الذي أريده، مضيفاً: إن المبالغ المخصصة لإصلاح السيارة تُستنزف خلال أشهر قليلة من بداية العام، ما يدفعني إلى الاعتماد على وسائل نقل خاصة، لأن لا جدوى من الصيانة المتكررة لهذه الآلية ومن الأجدر استبدالها أو تنسيقها.
عرقلة للعمل
(عبد الرحمن) سائق سيارة تعمل في خدمة إصلاح بالطوارئ قال: إن العمل المطلوب من الورشة كبير ويمتد على مدى ساعات النهار، وداخل أوقات الدوام الرسمي وخارجه، لكن كثرة الأعطال تعرقل تنفيذ الأعمال المطلوبة، مشيراً إلى أن المعدات الهندسية وخاصة الضواغط «الكومبريسات» أيضاً مهترئة وبحاجة إلى استبدال ما يؤثر سلباً في تنفيذ الأعمال المطلوبة.
بدوره مهندس مسؤول في مركز خدمي قال: إن المركز الذي أعمل فيه بحاجة إلى سيارة تستطيع تلبية متطلبات العمل لخدمة المواطنين، ولكن الذي يحصل أن السيارة الوحيدة المخصّصة لخدمة المركز الذي أديره تعود سنة صنعها إلى عام 1986 وتمضي معظم ساعات العمل في ورشة الإصلاح، ما يعرقل تنفيذ المشروعات المطلوبة مع أن هناك سيارات حديثة نسبياً موضوعة في خدمة المديرين والإداريين.
سيارات «خمسة بواحد»!
أحد الفنيين في إحدى شركات الإنشاءات العامة الحكومية بيّن أن الشركة سلّمته سيارة «إيج» روسية الصنع مصنوعة في عام 1984 ومعظم أجزائها لم تعد أساسية بسبب عدم توفر قطع التبديل، ما اضطره لتبديلها بأنواع أخرى تسمّى بلغة الميكانيكيين «توقيع»، حتى أصبحت مجموعات سيارات بسيارة واحدة، مشيراً إلى حادثة طريفة حصلت معه أثناء تنقله بين الوحدات الإدارية عندما أوقفه شرطي المرور ليسأله عن حزام الأمان، فأجابه قائلاً: «هذه السيارة روسية الصنع، ومحركها ياباني، وعجلاتها صينية، ومجموعة الحركة كورية، وفرْشها محلي الصنع و(التابلو) ماليزي، فمن أين آتي لك بحزام الأمان، الأمر الذي جعل الشرطي يعتذر منه ويصرفه!
استبدال كل خمس سنوات
«جهينة» التقت مدير الآليات في شركة كهرباء دمشق الذي أشار إلى أن أغلب السيارات التي تملكها المؤسسات الحكومية قديمة وبحاجة إلى استبدال، مشيراً إلى أن عدد السيارات التي تمتلكها المؤسسة 283 آلية في كهرباء دمشق مفقود منها 100 آلية وتستعمل حالياً 183 آلية قيد الخدمة، مبيّناً أنه تم تسليم سيارات للتنسيق قبل الأزمة وعددها 33 آلية، ولم تحصل المؤسسة على غيرها بعد اندلاع الحرب، ولديها آليات مصروفها كبير، ولذلك من المفروض استبدالها كل 5 سنوات وخاصة للشركات الخدمية.
وأضاف: ينبغي عند توزيع السيارات على المهندسين أن تكون حديثة نوعاً ما، لكن ما نراه أن مدير مكتب في مؤسسة أو وزارة يستعمل سيارة حديثة وأفضل من سيارة مهندس في شركة خدمية، مبيناً أن هناك وعوداً من مجلس الوزراء بتسليم شركته سيارات (شام) ولكن إلى الآن لم تحصل عليها، مشيراً إلى أن سيارات الخدمة تقوم بخدمة الوحدات، والمؤسسة مسؤولة عن صيانتها، أما السيارات المخصّصة والتي تكون مع المديرين فتصرفُ المؤسسة لكل سيارة 2000 ليرة قيمة صيانة على مدار العام.
مفارقة
فيما يرى بعض المعنيين والعاملين في خدمة السيارات الحكومية أن الكثير من العاملين في الدولة متمسكون بوظائفهم لوجود «حافز» السيارة التي هي من ضرورات مناصبهم، فليس من المعقول أن يعتمد معاون مدير أو مدير تجاري أو مدير فرع لشركة كبرى على وسائل النقل العامة، ولا يرى في السيارة امتيازاً، حيث إن المنصب يخوله الحصول على واسطة نقل، ولاسيما أن هذا الامتياز متوفر في القطاع الخاص.
قانون لا يطبّق!
مدير آليات في إحدى مؤسسات الدولة تحفّظ على ذكر اسمه لأن وزارته تمنع الحديث للإعلام، قال: بالنسبة للآليات القديمة فقد كان هناك تعميم من رئاسة مجلس الوزراء ينصّ على وقف ترسيم كل الآليات والسيارات التي يعود صنعها إلى سنة 1984 فما دون إلا بكتاب من الجهة العامة المالكة للآليات مرفق بمحضر كشف فني للآليات وجاهزيتها واقتصاديتها وعلى مسؤولية الجهة المالكة ليتم منح الموافقة عليها من مجلس الوزراء لعام واحد فقط، مع مبررات الاحتفاظ بها والحاجة إليها، علماً أن أغلب الجهات العامة وبشكل دائم
تطلب احتياجاتها من الآليات والمعدّات الهندسية بشكل سنوي، وجميع احتياجات المؤسسات من الآليات التي ترفع لا تلبي نسبة 30%، التي تتم الموافقة على شرائها، وذلك على حساب الجهة الطالبة للآليات.
أعطال كثيرة وبيروقراطية «قاتلة»!
عن معاناة المؤسسات والشركات العامة مع الآليات القديمة أضاف: إن أغلب الآليات كثيرة الأعطال مع ندرة قطع التبديل والارتفاع الكبير في أسعارها إن وجدت، إضافة إلى استهلاكها الكبير للمحروقات والزيوت، علماً أن هناك سيارات ما زالت في الاستثمار معدل استهلاكها للبنزين 24-25% أي لكل 100 كيلو متر 25 ليتر بنزين، وهذا المعدل مرتفع كثيراً وغير اقتصادي.
وبشأن إمكانية تنسيق هذه الآليات قال: إن تنسيق هذه الآليات مستحيل بالنسبة لمؤسسات الدولة بسبب العوائق البيروقراطية المعقّدة، ولذلك تقوم هذه المؤسسات بوضع آلياتها ضمن التنسيق الذي تستغرق إجراءاته سنوات طويلة، ما يؤدي إلى سرقة معظم أجزائها لتبقى على الهيكل ولا يمكن تنسيقها، لأن اللجان المعنية بذلك ترفض استلامها، مشيراً إلى أن التنسيق يكون عادةً من خلال تسليم هذه الآليات لمعمل الصهر أو شركة «أفتوماشين»، مضيفاً: إن كثرة اللجان والإجراءات التي تعمل عليها آلية التنسيق تعرقل إتمام العملية، فيما يفترض أن تكون اللجان الفنية العاملة في المؤسسات هي التي تكشفُ على الآليات، وهي التي يجب أن تقرر تنسيقها، وذلك لتيسير عملية التنسيق بشكل يتيح للجهة العامة التخلص من الآليات التي تكون عبئاً على موازنتها، علماً أن وزارة المالية تقوم باقتطاع مبالغ على شكل ضرائب عن الآلية المتوقفة بشكل سنوي، ما يشكل نزيفاً للجهة العامة وهي غير مستفيدة منها.
وبالنسبة لآلية الإصلاح والصيانة قال: المبالغ المخصصة للإصلاح لا تزال قليلة بالنسبة لسنوات قبل الأزمة، عندما كان الدولار بقيمة 50 ليرة سورية، مبيناً أن مجموع المبالغ المخصّصة للآليات التي تعمل على البنزين 100 ألف ليرة سنوياً، والديزل دون 11 طناً 300 ألف ليرة سنوياً، وهذه المبالغ لا تكفي عملية إصلاح عطل واحد، وهنا تضطر الجهة العامة لرفع سقف الإصلاح من الوزارة التابعة لها بعد استهلاك المبلغ المخصّص للآلية سنوياً، مشيراً إلى أن الروتين والمعاملات الورقية المعقّدة هما اللذان يعرقلان ذلك بشكل دائم، ما يؤخر عملية إصلاح الآلية وزيادة تكاليف إصلاحها وصيانتها.
أسعار مرتفعة
وحول أسعار قطع الآليات القديمة أكد أنها ارتفعت بحدود 10 أضعاف لكل أنواع الصيانة، وكذلك أجور عاملي الصيانة وقطع التبديل للسيارات، مبيناً أن هذه التكاليف لا تشمل الزيوت، لأن أغلب مؤسسات الدولة تسحب زيوت السيارات من شركة (سادكوب)، بحيث يتم تبديل الزيوت بشكل دوري، إذ يتم تبديل زيت الآلية التي يزيد عمرها على 10 سنوات كل 5000 كيلو متر لكل تبديل، والآليات الأقل من عشر سنوات كل 7500 كيلو متر، علماً أن هذه المسافة كبيرة وتؤثر في استهلاك المحرك ما يسبّب أعطالاً كبيرة، مضيفاً: يجب أن يكون تبديل الزيت على مسافة 3000 كيلو متر، لأن أغلب الزيوت بأنواعها ذات مواصفات متدنية غالباً، وكل غيار زيت للآلية يكلّف بين 5- 17 ألف ليرة.
وبالنسبة لمصاريف هذه السيارات القديمة من المحروقات قال: هناك خطة سير سنوية للآليات متضمنةً المسافات المخصّصة لكل آلية تُرفع إلى رئاسة مجلس الوزراء لتتم الموافقة عليها، مشيراً إلى أن المحروقات وخاصة البنزين تم تحديد سقف الاستهلاك لكل آلية بـ 15 ليتراً شهرياً لسيارات الخدمة، وتقسم آليات البنزين إلى قسمين: الآليات التي معدل استهلاكها 14% فما دون سقف المسافة المسموح لها 1000 كيلومتر شهرياً، والقسم الثاني الآليات التي يكون معدل استهلاكها 15% فما فوق سقف المسافة المسموح لها خلال شهر 500 كيلومتر، وأي استثناءات تحتاج إلى موافقة مجلس الوزراء، والآلية التي تنهي مخصصاتها قبل نهاية الشهر يتم إيقافها حتى بداية الشهر التالي.
خطة مملة
فيما يخص الآلية المتبعة في الإصلاح، أوضح أن المرآب التابع للمؤسسة يستقبل السيارة المعطّلة ليتم الكشف عليها من لجنة مختصة تشخّص العطل ويتم تنظيم طلب إصلاح بالإصلاحات المطلوبة ويُستكمل الطلب بموافقات الإدارة بعد التأكد من وجود رصيد يكفي لإصلاح العطل، وبعدها تحول إلى لجنة الإصلاح، وفي حال عدم توفر القطع للسيارات القديمة تقوم المؤسسة المعنية باستيرادها من تجار من دول مجاورة ولهذا تكون الأسعار مرتفعةً، ما يكلف المؤسسة أعباء مالية إضافية.
آلية جيدة
أخيراً أشار إلى أنه وقبل الحرب على سورية كانت هناك آلية للتخلص من السيارات القديمة عن طريق السماح باستئجار سيارات خاصة لاستخدامها في عمل المؤسسات شرط أن يكون الإصلاح على حساب المؤجّر والوقود على المؤسسة، وفعلاً تم إتباع هذه الآلية خلال فترة الحرب، لأنها تخفف من الأعباء ومصاريف الصيانة على المؤسسات، مضيفاً: يجب على جميع الجهات المعنية أن تقوم باستيراد عدد من الآليات دفعةً واحدةً حتى يتم استبدال الآليات القديمة بأخرى حديثة من دون عراقيل ومعوقات والانتظار لسنوات، نظراً لحاجة أغلب مؤسسات الدولة الخدمية لآليات جديدة، الأمر الذي قد يوفر عليها مصاريف وأعباء مالية تكون أحوج إليها في أمور أخرى.
القرار رقم 63
رئاسة مجلس الوزراء كانت قد أصدرت القرار رقم 63 تاريخ 23/8/2007 القاضي بقيام الجهات العامة باستبدال السيارات الحكومية والتي سنة صنعها عام 1985 وما قبل عن طريق بيعها وفقاً لأنظمة العقود النافذة والأسس المعتمدة في مجلس الوزراء.. ولو أن الأمور سارت فعلاً باتجاه تبديل سيارات الجهات العامة التي تكلّف الدولة مبالغ طائلة جداً لكانت هناك نقلة حقيقية باتجاه تطبيق سياسة الترشيد بشكل صحيح وسليم ومباشر، وستتحقق وفورات كبيرة من أعمال الإصلاح وتبديل القطع التي تكلّف سنوياً مليارات الليرات، وفي الوقت نفسه يستحق موظفو الدولة ركوب سيارات جديدة غير مكلفة، خاصة أننا نعلم أن هناك سقفاً محدداً للإصلاح والصيانة والذي يموّل من الجهة العامة.
إحصائيات
سجّلت إحصائيات مديرية النقل ما يزيد على 300 ألف سيارة قديمة في سورية، وتوجد سيارات تمت صناعتها في الفترة بين عام 1960 وحتى عام 2007، ومن ضمن السيارات غير الحكومية العاملة على البنزين 32% أعمارها أكثر من 13 عاماً, بينما السيارات الحكومية العاملة على البنزين والبالغ عددها نحو 16 ألف سيارة فإن 66% منها أعمارها أكثر من 13 عاماً. كما أن هناك آلاف الآليات والمعدّات الهندسية والآليات الثقيلة تمت خسارتها في الحرب، وهناك أيضاً آليات تأثرت بالأعمال الإرهابية وخرجت عن الخدمة ومنها التي فُقدت.
04:07
14:56