جهينة نيوز- بقلم فاديا جبريل:
مع كشف مسؤولين أمنيين أمريكيين أن الكونغرس صدق سراً على تمويل شحنات أسلحة إلى المجموعات الإرهابية في سورية التي سمّوها «المعارضة المعتدلة»، تدخل المنطقة برمتها مرحلة سقوط الأقنعة دفعة واحدة، حتى ليبدو البيت الأبيض يداري احتضار مشروعه بذهابه إلى أقصى درجات الرياء والكذب والازدواجية المفضوحة!!.
العدوان الأمريكي على سورية «المتبرقع» الملتحف بالعباءة الخليجية والإسلامية والذي يشكل جوهر مشروع تغيير خريطة الشرق الأوسط أخذ مراحل عديدة وبات في مراحله النهائية، ومناوراته في جنيف وما قبلها بأشهر، أتت في سياق حلول استدراكية بعد فشل ما خطّط له هؤلاء بأن سورية ستسقط خلال أسابيع ومن ثم أشهر ثم سنوات، ما دفع بدوائر العدوان إلى خلق مرحلة ودفن سابقتها بمسميات مختلفة، قوامها جسد وقناع أسود واحد، يضمّ عناصر تكفيرية سورية وعربية وإسلامية، شعارها التطرف ومهمتها تدمير ممنهج لمختلف مقومات القوة العسكرية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والأخلاقية لسورية.
الغرب اعتمد في لعبته المكشوفة هذه، للقفز من مرحلة إلى أخرى، على ضعف ذاكرة الشعوب والتكثيف والضخ الإعلامي الهائل، والتركيز على حوامل المراحل المستجدة لتحويل الأنظار عن فشل مرحلة وإعادة إنتاج أخرى بنفس العناصر ومكوناتها ودورها ووظيفتها، الفارق كان فقط بتغيير الأسماء بما يخدم تطور مراحل الصراع.
ولأن مناخ الفوضى والاضطرابات السياسية والأمنية في المنطقة العربية أسبغوا عليه صفة «الثورات»، كان لابد من إلباس العدوان على سورية رداء «الثورة» التي عوّل عليها كثيراً للإطاحة بالأنظمة التي تعارض السياسات الأمريكية، ولاسيما أنهم اكتسبوا فيها خبرة عملاتية، بدءاً من الثورة البرتقالية في أوكرانيا إلى ما سمّوه عنوة «ثورة الأرز» في لبنان وتالياً إلى تونس ومصر وليبيا.
«الثورة» المزعومة في سورية لم تبدُ إرهاصاتها أو بوادرها أو مؤشراتها في مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بل اختُرعت لتكون ساعة صفر لعدوان مبيت مباغت يختلف عن الحروب المباشرة، وإن أخذ في بعض مراحله صفة المباشرة.
مع بدء فصول العدوان على سورية، اتسم الخطاب السياسي الغربي بالتدخل الحذر ريثما تكتمل الركائز الأساسية لهذا العدوان، والإيحاء بأن ما يحدث وسيحدث هو «نتاج ثورة شعب ضد نظام مستبد» لا علاقة للخارج بتحضيره، فسُمّيت العناصر التكفيرية «ثواراً»، في تكتيك يؤسّس مسرح الأحداث تمهيداً للعمل المسلح، وأطلق أطراف العدوان على بعض الخارجين عن القانون والمجرمين من أصحاب السوابق والجرائم الجنائية وبعض الفارين من الخدمة اسم «الجيش الحر» ليكتمل المشهد الإعلامي، ويُقال إنها «ثورة أفرزت جيشاً شرعياً من جنود (منشقين) عن الجيش السوري» في سياق بربوغندا تُوهمُ أن عدداً كبيراً من ضباط وأفراد الجيش السوري قد التحقوا بقطار «الثورة»، فكان التركيز الإعلامي على تأسيس «كتائب وألوية» لهذا المسمى «الجيش الحر»، وفيما كنا نرى أن كل كتيبة لا تحوي إلا أربعة أو خمسة عناصر، كان الغرب ووسائل إعلامه يسعيان إلى تعميم كذبة توحي بأن عدد المنشقين كبير، وأن «قوام هذا الجيش العديد من الكتائب والألوية»، وأنه صار لـ«الثورة» جيش يحميها ويحمل اسماً يمكن أن يخفي خلفه كل عناصر التشرذم والفوضى من تكفير وتطرف وإرهاب.
في تلك المرحلة، أي مرحلة إطلاق كذبة «الجيش الحر»، ظهرت قدرة سورية السياسية والعسكرية على استيعاب الصدمة وامتصاصها، وتفكيك عناصر المؤامرة، لتنكشف معها حقيقة أن هذا الجيش الافتراضي عاجز عن إسقاط الدولة، وأن من ينضوي تحت راية كتائبه وألويته المزعومة ليسوا إلا عناصر متطرفة تكفيرية وهابية ومجرمين فارين من وجه العدالة، وعندما ظهرت جرائمه للعلن من مذابح طائفية وتقطيع وتنكيل بالجثث وخطف وقتل على الهوية وعمليات ذبح وأكل أكباد مصورة بكاميرات «الثوار»، كان لابد من تغيير المسمّى إلى آخر أكثر التصاقاً من الناحية الإعلامية «بالقاعدة»، فظهرت «جبهة النصرة» التي تشكلت من عصابات «الجيش الحر» نفسها، فضلاً عن إرهابيين استُقدموا من مختلف الدول الإسلامية، إذ كان لإطلاق «جبهة النصرة لأهل الشام» في ذلك التوقيت أسباب استخباراتية لضمان عدم تعثر المشروع الذي يسعى إلى إسقاط سورية، نذكر منها:
أولاً: تسمية «الجيش الحر» لم تساعد الدوائر الغربية والخليجية على استقطاب إسلاميين متطرفين من أصقاع العالم ليتمكنوا من سد ثغرة قلة العدد، أضف إلى ذلك صعوبة الترويج لهذا المسمّى خارج الحدود.
ثانياً: إلصاق الجرائم التي ارتكبها ما يسمّى «الجيش الحر» بفصيل متشدد متطرف هو «جبهة النصرة»، كجسر للانتقال إلى المرحلة التالية التي شهدت أكبر تجنيد لعناصر تكفيرية خارجية جاءت من أوروبا وشمال إفريقيا ولاسيما تونس وليبيا ومن الشيشان وباكستان وتركيا والخليج وغيرها من الدول.
لقد جاء إدراج «جبهة النصرة» على لائحة المنظمات الإرهابية من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا كعملية تمويه تهدف إلى إلصاق ما فعله «الجيش الحر» من جرائم بـ «جبهة النصرة» دون أن يمنع ذلك من وصول الأسلحة والمال الأمريكي لـ «جبهة النصرة»، والدليل أن متزعمي ما يسمى «الجيش الحر» رياض الأسعد وسليم إدريس ورئيس جناحه السياسي المزعوم معاذ الخطيب عارضوا بشدة القرار الأمريكي بوضع «النصرة» على لائحة الإرهاب، في تأكيد واضح أن قوام «الجيش الحر» و«جبهة النصرة» واحد، ومقولة سليم إدريس «أن كل من يأتي ليقاتل النظام السوري من الإسلاميين هم إخواننا»، دليل كبير على ذلك لا يستدعي أي نقاش!!.
في تلك المرحلة بدأ الحديث عن حل سياسي للأزمة في سورية لخلق عوامل ضغط من نوع آخر، يرمّم الفشل الميداني في تحقيق أهداف العدوان، بنهج أمريكي منافق يدّعي مواكبة الجهود الدولية لإيجاد حل سياسي.
وكما نعلم فإن الولايات المتحدة الأمريكية بدأت تواجه انتقادات حادة عبر تقارير إعلامية غربية تنبّه وتشير إلى أن دعمها المالي والعسكري يذهب إلى متطرفي «جبهة النصرة»، وخاصة مع بروز حقائق أصبحت من المسلّمات، أن النهج الأمريكي ظاهرياً يدعو لمواكبة الجهود الدولية للذهاب إلى مؤتمر «جنيف 2» وإيجاد حل للأزمة، في حين يعلن البيت الأبيض أن واشنطن تدرس تقديم ما سمّتها «مساعدات غير قاتلة»، وتبارك بصمت الإرهاب السعودي الساعي إلى زعزعة أمن المنطقة وإشاعة الفوضى فيها، ليرى العالم أن الإدارة الأمريكية مصمّمة على محاربة الإرهاب في العالم وعلى حل المسألة السورية دبلوماسياً، ولكنها تقوم عملياً ومن خلف الكواليس بعرقلة الحل بالتواطؤ مع السعودية وقطر وتركيا، وتستمر بدعم ومساعدة المجموعات الإرهابية التي تضم عشرات الآلاف من المرتزقة العرب والأجانب!!.
مع تطور الحديث وتنامي الرغبة الدولية بعقد مؤتمر جنيف، برز مطلب ملح، ألا وهو إظهار فصيل مقاتل «معتدل» ليكون طرفاً مفاوضاً، ومع لعبة التبادل بين «الجيش الحر» و«جبهة النصرة» وأنهما جسد واحد، تمّ سحب اسم «جبهة النصرة» من التداول لتحلّ مكانها «الجبهة الإسلامية»، ويبقى «الجيش الحر» فقط اسماً في الإعلام، تُنسب إليه إنجازات ميدانية تستخدم كأوراق تفاوضية، رغم اليقين والعلم أن هذا «الجيش» ذاب أصلاً ما بين «جبهة النصرة» و«داعش»!!.
في هذه المرحلة انتقلت واشنطن إلى المرحلة الـ«داعشية» بهدف تنظيف السجل الإجرامي للمسميات القديمة من «حر ونصرة»، من خلال إظهار من هو أكثر تشدداً وتطرفاً وتكفيراً، فتضفي بذلك عليهما صفة «الاعتدال ومحاربة إرهاب التطرف الداعشي»، وبالتالي انتزاع ورقة الاعتدال من الدولة السورية، ومن جهة أخرى تشرعن الولايات المتحدة الأمريكية الدعم العسكري الذي تقدمه للإرهابيين المتطرفين المقاتلين في سورية، بذريعة أنهم يدعمون «المعارضة المسلحة المعتدلة»، أي دعم الإرهاب «المعتدل» وفصيله السياسي «المعتدل» المصنّع على مقاس أحذية الساسة الأمريكيين، لإجلاسه على طاولة المفاوضات في «جنيف2».
إن المتابع البسيط يعلم علم اليقين أن لا وجود لـ«الجيش الحر» إلا في الإعلام، وما «الجبهة الإسلامية» التي يخفون تحتها «جبهة النصرة» إلا لزوم متطلبات «جنيف2» والتي أعلنت الإدارة الأمريكية فتح قنوات تفاوض معها.. ففي أحد مقاطع الفيديو المنشورة على «اليوتيوب» تُظهر مكالمة هاتفية التكوين الأساسي «للمعتدلين» الجدد من «الجبهة الإسلامية»، حيث يطالب أحد قادة ما يسمى «بالمعتدلين» عمر شاكردي قائد لواء «أمجاد الإسلام» المنضوي تحت ما يسمى «الجبهة الإسلامية» مقاتلاً من «داعش» أن يسلم مقراته لـ«جبهة النصرة»، وأنهم تحت أمر ما يحكم به أمراء «النصرة» لحل الخلاف مع «داعش»، وهذا ما يؤكد أن «معتدلي الجبهة الإسلامية» هم نفسهم من وضعتهم الولايات المتحدة على لائحة إرهابها أي «جبهة النصرة»، وفي تصريح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن «الجبهة الإسلامية» فصيل إرهابي كـ«جبهة النصرة» دليل كبير على ذلك.
إن النيات الأمريكية المبيتة في الإبقاء على حربها بفصيلها «الإرهابي المعتدل» هو الملمح الأوضح لتوجه واشنطن في عدم إيجاد حل سلمي للأزمة في سورية، ولا غرابة بل من المتوقع أن ترفض أمريكا بلسان «ائتلاف الجربا» (المعتدل) الورقة السورية التي تضمن سيادة سورية وترفض التدخل الخارجي الموعودين به في حال فشل المؤتمر، كما جاء على لسان المفاوض «المضروب والمعطوب الرأس والدماغ» هيثم المالح، وذلك لأسباب ستكشف حجم المأزق الأمريكي في فريقها التفاوضي لجهة أنه بقبول الورقة سيُفتضح أن هذا «الائتلاف الجرباوي» لا يملك شيئاً في الميدان وليس بمقدوره توجيه أي أمر أو كلمة للمسلحين، بل ستظهر الحقيقة الجليّة التي سعت أمريكا إلى تعميتها، أنه مهما تعدّدت مسميات المسلحين على الأرض هم في النهاية عناصر قاعدية تكفيرية، يجاهرون بالدعم الغربي لهم وهم الذين يدركون أن معركة اجتثاثهم في سورية مستمرة.
ومن هنا يتصدر مطالب الحكومة السورية ووفدها إلى «جنيف 2» بند مكافحة الإرهاب، الأمر الذي سيعيد المتآمرين إلى المربع الأول، ولا ندري إن كان هذا ما سيحصل؟ إلا في حالة أن الغرب الذي خلق ودعم وموّل كل هذا الكم الهائل من الخارجين عن مبادئ كل الأديان السماوية احترق بالنيران التي أشعلها، حينها سيتصدر من جديد ملف مكافحة الإرهاب سلم أولويات الحكومات الغربية، لأن الفرز الوظيفي للإرهاب بين «الإرهاب المعتدل والإرهاب المتشدد، أو الإرهاب الحميد والإرهاب الخبيث»، لن يقيهم شره، ونعتقد أن هذه الساعة آتية لا محالة مادامت سورية صامدة وماضية قدماً في حربها ضد الإرهاب، طالت المعركة أم قصرت.
عن صحيفة تشرين